العربي الجديدمقالات العربي الجديد

وجوه محمد أبو الغيط

بنبرة صوت هادئة ومنخفضة، ينطلق بمعلومات وأفكار كثيرة، وكأنه مدفع سريع الطلقات، إلى درجة أنني كنت أتمنى أن يتمهل قليلا أو يرفع صوته، حتى أتمكّن من تذكر تلك الأفكار فيما بعد بوضوح! كنت، مثل مئات غيري، ألجأ إلى الصديق محمد أبو الغيط لالتماس النصح والمشورة في مناسبات عدّة. وكان يتعامل ببساطة وعفوية، رغم أنه كان ينطق بمعلومات وتفاصيل كثيرة أسمعها أول مرة، وكأنه كان في عجلة من أمره بأن يقول كل ما لديه، وأن يزرع نبتا ما داخل كل من يقابله قبل أن يرحل. وبالفعل، قرأت مئات التدوينات التي يتحدّث أصحابها عنه مطولا وبإسهاب شديد، رغم أنهم قابلوه مرّة أو مرّتين، أو حتى لم يلتقوه أبدا، وكانت العلاقة بينهما تقتصر على التواصل الإلكتروني.

التقيت أبو الغيط للمرة الأولى في أثناء زيارة له الدوحة قبل سنوات، ثم التقينا مرّات أخرى، وتواصلنا إلكترونيا، كما تعاونا في مشروع مشترك بعض الوقت، قبل أن يعتذر، بأدبه الجمّ، عن عدم قدرته على الاستمرار بسبب مشاغله ومشروعاته الأخرى التي كان يعطي لها الأولوية. كما تكرّم بترشيح آخرين للمشاركة بدلا منه، وتطوّع بالحديث مع بعضهم، ليساعدني على استكمال المشروع.

يذكّرني محمد أبو الغيط، بقدراته المتعددة ومهاراته الاستثنائية ووجوده المؤثر في عشرات المشروعات والمبادرات، وحتى في مرضه الأخير، بشخصيات أخرى كان لي شرف التعامل معها قبل رحيلها المبكّر الحزين. ففي أحد وجوهه، يشبه أبو الغيط الصديق الراحل، البراء أشرف، في حضورهما الهائل ومواهبهما المتعدّدة، وكأنهما كانا يدركان أن العمر قصير، وأنهما راحلان قريبا، فقرّرا أن يخرجا كل ما في جعبتهما قدر الإمكان. وقد كتب أبو الغيط منشورا طويلا عند وفاة البراء عام 2015، التقط فيه أبرز ملمح من ملامح حياته، أنه كان يعمل بسرعة كبيرة، وكأنه “يسابق الزمن”، وهو وصف يصدُق تماما على أبو الغيط أيضا.

من ناحية الملامح، يتشابه الصديق أبو الغيط مع الصحافي حازم دياب، الذي وافته المنية قبل أربع سنوات بالمرض نفسه. ورغم أنني لم أعرف دياب شخصيا، إلا أنني وجدت تشابها كبيرا في ملامحهما، كما قرأت شهادات كثيرة تؤكّد موهبة الراحل الكبيرة في الكتابة والتعبير، وقد حلت ذكرى وفاته بعد يوم من وفاة أبو الغيط.

وفي المرض الأخير الذي استمر شهورا، ذكّرني أبو الغيط بالصديق الراحل محمد الجبّة، الذي توفي بعد معاناة طويلة مع المرض، وكان شابّا واعدا وثائرا مهموما بقضايا وطنه. وأنا أؤمن بأن ذلك كان رحمة من الله عز وجل، لأن الأمراض والمصائب تكفّر الذنوب، مصداقا لما قاله النبي محمد صلى الله عليه وسلم “ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله عز وجل عنه، حتى الشوكة يشاكها”. وأيضا “ما يصيب المسلم من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غَمّ حتى الشوكة يُشَاكُها إلا كفَّر الله بها من خطاياه”. وكذلك الحديث الشريف “يودّ أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب، لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض”.

وأخيرا، ارتبط الرحيل بصديق عزيز آخر هو إسماعيل الإسكندراني، الذي شاءت إرادة الله عز وجل أن يخرج مساء يوم وفاة أبو الغيط، بعد سبع سنوات من التغييب وراء القضبان، وهي مدة مقاربة لمنفى أبو الغيط التي تمكّن خلالها من تحقيق إنجازات مهنية ستبقى شاهدة على صحافي وكاتب وباحث وإنسان نادر الوجود.

حين أتأمل سيرة أبو الغيط، وأقرأ ما كتبه بعضهم عن تحسّرهم على أنه عاش خارج مصر، أجد نفسي أحمد الله على ذلك، فلو عاش الراحل في “وطنه” لما استطاع أن يحقق عُشر ما حققه، بل وربما كان يقبع خلف القضبان سنوات طويلة، مثلما حدث مع الإسكندراني، بسبب كتاباته وتحقيقاته الاستقصائية. وفي أفضل الأحوال، كان سينزوي خائفا من الملاحقة، ويكتفي بالعمل في إحدى المؤسسات داخل الوسط الصحافي المصري الذي انهار فعليا، مقابل أجر زهيد وخوف مستمر من الطرد أو الاعتقال.

لو عاش الراحل داخل مصر ربما كان سيلحق بوالد زوجته، الدكتور سيد شهاب، الذي يقبع خلف القضبان منذ تسع سنوات بدون محاكمة، رغم تبرئته من القضية الهزلية التي يحاكم فيها قبل عامين، كما أنه ممنوع من أن يزوره أحد منذ سبع سنوات! ورغم انتشار دعوات تطالب بالإفراج عنه، إلا أن السلطة كالعادة تصم أذانها.

لم أتفهم غضب بعضهم وحزنهم من دفن الراحل خارج مصر، فالسلطة لم تترك حتى الأموات في قبورهم، وأزالت آلافا منها بدواعي التطوير وإنشاء الكباري! ومنهم شخصيات شهيرة كانت ملء السمع والبصر، مثل الأديب يحيى حقي، الذي قرّرت السلطات هدم مقبرته ونقل رفاته إلى مكان آخر. ولذلك أجدني أتفق مع الإعلامي حافظ الميرازي الذي تساءل “ما جدوى أن تُدفن في وطنك مصر ما دام حكام بلدك سيهدمون قبرك، لو وجدوا منفعة في استخدام مكان رقادك الذي اعتقدت أنه الأخير. أليس الدفن خارج الوطن أكرم؟”.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى