عربي 21

عن التبشير بنهاية العالم كما نعرفه

لا تتوقف “النبوءات” التي يطلقها البعض عند اندلاع أي حدث كبير مثل الحروب والنزاعات والأزمات السياسية أو الاقتصادية، فنجدهم يبشرون على الفور بأن النظام العالمي الحالي على وشك الانهيار، وأن نظاما جديدا متعدد الأقطاب سيتشكل بدلا من النظام أحادي القطب. هذا النظام الجديد يتميز بعدة خصائص وفقا لهؤلاء المبشرين، أهمها تراجع قوة أمريكا وانهيار اقتصادها وعملتها المسيطرة على التعاملات التجارية بين دول العالم، لصالح قوى أخرى مثل روسيا والصين والهند، أو أي دول أخرى يراها هؤلاء على هواهم. وظهور بديل لشبكة الإنترنت ونظام سويفت لتحويل الأموال وغيرها من الأنظمة التي يتحكم بها الغرب.

أما عن بديل الدولار، فيختلف حسب كل “نبوءة”، فنجد عملات مثل الروبل الروسي واليوان الصيني واليورو. وحتى الذهب، أكد البعض أنه سيرث الدولار، وأننا سنعود إلى وضع يشبه العصور الوسطى فيما يتعلق باستخدام الذهب كعملة. وقد تطورت تلك النبوءات والتبشيرات، حتى إن البعض كان ولا يزال يجد لذة غريبة في التبشير بـ”حرب عالمية ثالثة” تأكل الأخضر واليابس بعد أن يستخدم فيها السلاح النووي، وكأن هؤلاء لن يتضرروا من حرب كهذه مثلا ولن يصيبهم من “الحب” جانب.

مشكلة هذه التوقعات أنها تستند إلى رؤى “مهدوية” للسياسة العالمية والعلاقات الدولية، فهي تنتظر الحل الشامل الكامل الضخم الذي سيقضي على الأشرار بضربة واحدة، وسيعيد الحق لأصحابه.. إلخ. كما أنها تعتمد على “تفكير بالتمني”، دون أن يصحب ذلك التفكير شواهد وأدلة منطقية.

فمن يتابع تاريخ الأزمات حول العالم سيجد أن تلك المقولات ترددت مرارا قبل ذلك. فقد سمعنا مثل هذا الكلام على سبيل المثال بعد اندلاع الأزمة المالية العالمية عام 2008، عندما انهارت الأسهم الأمريكية وأشهرت بنوك ومؤسسات مالية إفلاسها، ليؤكد البعض حينها أن الولايات المتحدة انهارت إلى الأبد ولن تقوم لها قائمة. وبشّر آخرون باقتراب حلول أخرى لمشكلات العالم لا تقوم على الاقتصاد الرأسمالي. لكن ما لبثت الأزمة أن انتهت وعادت أسعار الأسهم للارتفاع محققة أرباحا كبيرة خلال العقد التالي.

نفس الشيء تكرر في أزمات أخرى سابقة، مثل أزمة فقاعة الإنترنت عام 2000 التي أدت لإفلاس العشرات من شركات التكنولوجيا، وكذلك أثناء أزمة “الثلاثاء الأسود” عام 1987، وغيرها، وفي كل مرة تمتص الأسواق الصدمة وتستمر في النمو.

وقد انتشرت تلك التنبؤات كذلك بعد رفض ترامب الإقرار بهزيمته في الانتخابات الرئاسية، ثم اقتحام أنصاره للكونغرس أوائل العام الماضي. وقال هؤلاء العرافون العباقرة إن ما قبل هذا اليوم ليس كما بعده، وإنه بداية النهاية للولايات المتحدة، ثم لم يحدث شيء وتجاوزت المؤسسات الأمريكية الموقف وأُجبر ترامب على مغادرة منصبه رغم أنفه.

من جانب آخر، فإن تمني انهيار الدولار هو تفكير طفولي وساذج، والأهم أنه مؤذي ومدمر، لأن الجزء الأكبر من احتياطيات دول العالم بالدولار، وبالتالي فإن انهيار الدولار دون وجود بديل له سيعني بالتبعية انهيار النظام الاقتصادي في العالم أجمع، وهو ما ستكون تداعياته في دولنا العربية وبلاد العالم الثالث أسوأ بمئات المرات من التداعيات داخل أمريكا نفسها، لأننا للأسف متأخرون كثيرا ولا ننتج الكثير مما نستهلكه، ولذلك سنكون نحن أول وأكبر الضحايا وأكثرهم تأثرا، ما سيؤدي إلى موجة ضخمة من الفقر والأزمات الاجتماعية سيدفع الملايين ثمنها.

أما قوة الروبل الروسي التي هلل لها البعض واعتبروها دليلا على فشل العقوبات الغربية وبداية نهاية الدولار الأمريكي، فهو تهليل أعمى لا يُعرف له سبب، لأن تلك القوة المزعومة للروبل جاءت نتيجة تدخل البنك المركزي الروسي، وليس نتيجة العرض والطلب أو بسبب قوة الاقتصاد الروسي، وبالتالي من المشكوك فيه أن يستمر هذا الحال طويلا. كما أن قوة العملة أو ضعفها ليست مؤشرا على جودة الاقتصاد على الإطلاق. فالين الياباني على سبيل المثال أضعف من الروبل، ولكن الاقتصاد الياباني أقوى بمراحل من نظيره الروسي. ووفقا لخبراء اقتصاديين، فقد تسببت قوة الروبل المدعومة من النظام في تراجع الصادرات الروسية والاستثمارات الأجنبية، والإضرار بالميزانية وإعاقة القدرة التنافسية للمصدرين الروس.

إن تمني انهيار الدولار هو تفكير طفولي وساذج، والأهم أنه مؤذي ومدمر، لأن الجزء الأكبر من احتياطيات دول العالم بالدولار، وبالتالي فإن انهيار الدولار دون وجود بديل له سيعني بالتبعية انهيار النظام الاقتصادي في العالم أجمع، وهو ما ستكون تداعياته في دولنا العربية وبلاد العالم الثالث أسوأ بمئات المرات من التداعيات داخل أمريكا نفسها،

ومع أنه من المشكوك فيه بشدة أن نظاما عالميا تسيطر عليه روسيا والصين سيكون أفضل من سابقه، وأنه سيكون أسوأ بمئات المرات، وقد رأينا بالفعل جانبا من الوحشية الروسية والصينية في الشيشان وسوريا وأوكرانيا ومع أقلية الإيغور المسلمة، إلا أن نتائج الحرب الروسية الأخيرة لا تشي بأن “الدب” الروسي قادر على أن يغير النظام العالمي أو حتى يحسم معركته مع أوكرانيا. فالاقتصاد الروسي صغير الحجم للغاية مقارنة مع الاقتصاد الأمريكي، وهو متحكم به من قبل بوتين ورجاله بشكل يخوف أصحاب رؤوس الأموال من الاستثمار فيه والثقة به، كما أن جميع عوامل تفوق الولايات المتحدة على روسيا والصين لا تزال موجودة، وهي لا تقتصر بحال من الأحوال على مجرد قوة الدولار، بل تمتد إلى عشرات المجالات، مثل التعليم والبحث العلمي وبراءات الاختراع والقوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، وغيرها.

أما عن النتائج العسكرية المباشرة للحرب نفسها، فهي لا تدعم هذه التنبؤات العبقرية بحال من الأحوال، فقد فشلت روسيا في دخول كييف وفشلت في إتمام السيطرة على الشرق الأوكراني رغم مرور 6 أشهر على الحرب التي تضمنت فضائح عسكرية روسية، مثل إغراق الطراد موسكوفا فخر البحرية الروسية في أعماق البحر الأسود، ومقتل العديد من الجنرالات الروس بسهولة، واستهداف شبه جزيرة القرم بالغارات الأوكرانية، رغم أن كييف لم تكن تجرؤ على مثل هذا الأمر طوال السنوات الماضية منذ احتلال روسيا لها. وتحولت شوارع المدن الأوكرانية إلى معارض مكشوفة للأسلحة الروسية المدمرة. حتى وصل الأمر إلى استجداء روسيا طائرات مسيرة من إيران لاستخدامها في أوكرانيا، وقيامها بسحب منظومة صواريخ إس 300 من سوريا لتعويض خسائرها.

ورغم محاولة البعض التسويق للأسلحة الروسية والزعم بأنها خارقة وجبارة، وإطلاق تسميات فخمة على تلك الأسلحة، مثل “صاروخ الشيطان” والصواريخ الفرط صوتية وغيرها، إلا أن إسقاط الجيش الأوكراني لطائرة مسيّرة روسية وتفكيكها كشف عن حقيقة التفوق الروسي المزعوم في صناعة الأسلحة. ووفقا لتقرير على شبكة سي إن إن، كانت المسيّرة تحتوي على مكونات مصنوعة في دول غربية عديدة، مثل محرك ياباني، وعدسات فرنسية، ونظام تتبع أمريكي، فضلا عن أجزاء من النمسا وألمانيا وهولندا وتايوان! هذه هي الدولة التي يرى البعض أنها ستنشئ عالما متعدد الأقطاب!

في الميدان السياسي، تسبب بوتين في توسعة حلف شمال الأطلسي بعدما قضت على حياد السويد وفنلندا، كما عززت التحالف الأوروبي مع الولايات المتحدة، وأدت إلى تخطيط القارة العجوز للاستغناء عن الغاز الروسي الذي كان يمثل ورقة مهمة في يد بوتين، إلا أنه أهدرها برعونة، حتى إن خط نورد ستريم 2 الذي كان من المخطط افتتاحه قبل الحرب وكان سيتيح لروسيا المزيد من أوراق الضغط على أوروبا، أصبح في طي النسيان، ونجحت ألمانيا في تعبئة مخازنها من الغاز بنسبة تتجاوز 82% استعدادا لفصل الشتاء. كما نجحت في تخفيض اعتمادها على الغاز الروسي من 55% إلى 9.5% فقط.

طالما يحلم بؤساء العالم والطامحون إلى حياة أفضل في الهجرة إلى أوروبا وأمريكا، أو اللجوء فيها، فإن النظام العالمي الحالي مستمر. أما إذا تغيرت البوصلة إلى روسيا والصين وغيرها من الدول التي من المفترض أنها ستنشئ نظاما عالميا جديدا، حينها يمكن التعامل مع تلك الأطروحات بجدية.

واضطرت روسيا بيع نفطها لدول أخرى بأسعار رخيصة. كما أدى الأداء الكارثي للقوات الروسية إلى تزايد المخاوف من حدوث كارثة نووية على غرار ما حدث في مفاعل تشيرنوبل، بسبب اقتراب القتال من محطات للطاقة النووية وتخلف الأسلحة الروسية وعدم دقتها، ما يزيد من احتمالية إصابة تلك المحطات وخروج الوضع فيها عن السيطرة. كذلك ألقى العالم باللوم على روسيا بعد ارتفاع أسعار الحبوب، بسبب عدم قدرة أوكرانيا على تصدير قمحها لدول عدة، وهو ما كان يهدد طوال أشهر بمجاعة عالمية، لولا اتفاق تصدير الحبوب الذي وقّع مؤخرا بوساطة تركية.

وقد مثّل الرد الروسي على توسعة حلف الناتو نموذجا لتهافت روسيا وضعفها وإقرارها بالأمر الواقع. ففي البداية صدرت تصريحات تتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور إن انضمت فنلندا والسويد للحلف، وقال مسؤولون روس إن هذا التوسع إن حدث سيتطلب ردا عسكريا، قبل أن يتراجع بوتين ويصرح أن بلاده “لا تمانع” في انضمام البلدين للناتو، وأنه سيرد إذا نشرت قوات عسكرية على أراضي البلدين!

وأخيرا وعلى المستوى الشخصي، فإن معظم المروجين لتلك المقولات التافهة من المستحيل أن يخطر ببالهم مثلا أن يهاجروا بحثا عن حياة أفضل في روسيا والصين، أو حتى يفكروا في اللجوء إليها هربا من اضطهاد يتعرضون له في بلادهم، فمن المعروف أن هذين البلدين يدعمان كل الأنظمة الفاسدة والديكتاتورية على مستوى العالم.

وطالما يحلم بؤساء العالم والطامحون إلى حياة أفضل في الهجرة إلى أوروبا وأمريكا، أو اللجوء فيها، فإن النظام العالمي الحالي مستمر. أما إذا تغيرت البوصلة إلى روسيا والصين وغيرها من الدول التي من المفترض أنها ستنشئ نظاما عالميا جديدا، فحينها يمكن التعامل مع تلك الأطروحات بجدية.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى