اكتشافات مصرية عبقرية
يبدو أن الأزمات التي يمرّ بها العالم والمنطقة أدّت إلى توصل المسؤولين الحكوميين في مصر إلى “اكتشافات” جديدة في منتهى العبقرية، بينما لا يزالون يحاولون اكتشاف أمور أخرى يبدو أنها غائبة عنهم. أول هذه الاكتشافات التي جاءت للأسف بعد فوات الأوان، تصريح وزير المالية، محمد معيط، بأن حكومته “تعلمت الدرس”، وأنها لن تعتمد مرة أخرى على القروض والديون عالية الفوائد، أو ما تسمّى “الأموال الساخنة”.
ومصدر العبقرية هنا أن هذا الاكتشاف بديهي ومعلوم لدى المبتدئين في الاقتصاد، ولا يحتاج إلى كل هذا العدد من السنين للوصول إليه، لأن جميع الدول التي اعتمدت على هذا القدر من الديون لم تنجح في تحقيق أي تنمية، بل بالعكس تدهورت أوضاعها واضطرت، في النهاية، إلى بيع أصولها وفرض مزيد من الضرائب والأعباء على مواطنيها. كذلك حذّر جميع الخبراء الاقتصاديين الحكومة المصرية مراراً من مغبة الاستمرار في الاقتراض دون سقف، وخصوصاً أن هذه القروض أنفقت في مشروعات غير إنتاجية، وبالتالي لم تساعد في سداد الديون، وهو خطأ كلاسيكي يبدو أن المسؤولين المصريين لم يكتشفوه بعد، إذ بدأت الاستعدادات لافتتاح “مسجد مصر الكبير” في العاصمة الإدارية، وهو أحد أكبر مساجد العالم، إذ يتسع لأكثر من مائة ألف مصلٍّ، بتكلفة إجمالية بلغت ثلاثة أرباع مليار جنيه، رغم الأزمة الخانقة التي يعاني منها المواطنون، حتى إن السندات المصرية المعروضة في الخارج تشهد عزوفاً واضحاً من المستثمرين الأجانب، ما يعني أنه حتى الديون أصبحت بعيدة المنال.
وبما أن الحديث هنا عن العاصمة الإدارية التي تكلفت نحو 25 مليار دولار وفقاً لتقدير وكالة رويترز، هناك اكتشاف آخر وصل إليه المسؤولون، بعد سنوات من ترويجها، باعتبارها العاصمة الجديدة لمصر، فقد اتضح أنها لن تكون عاصمة ولا يحزنون، لأن ذلك يتطلب تعديل الدستور الذي ينص على أن القاهرة عاصمة البلاد، وأن ينعقد البرلمان والمحكمة الدستورية العليا في محافظة القاهرة. وبما أنه لا توجد نية حالياً لتعديل الدستور، فقد صدر قرار بضمّ أراضي العاصمة الإدارية لحدود محافظة القاهرة! كذلك “فوجئ” المصريون بأن الحكومة مطالبة بدفع أربعة مليارات جنيه سنوياً لشركة العاصمة الإدارية، نظير استئجار الحيّ الحكومي في المدينة، بعدما كانت الوزارات تعمل في مقرّاتها القديمة المملوكة لها، ولم تكن مضطرة إلى دفع أي مبالغ. وقد يقول قائل إن الوزارات يمكن أن تستفيد من مقرّاتها القديمة عبر بيعها ودفع إيجار المقرّات الجديدة من عائد البيع! ورغم ما يبدو عليه هذا الكلام من عبث، إلا أنه لن يتحقق أيضاً، لأن المقرّات القديمة ستنقل إلى ملكية الصندوق السيادي، وفقاً لتصريح المتحدّث باسم العاصمة الإدارية. وهذا الصندوق خارج عن سيطرة الحكومة ومستقل عن ميزانيتها، أي إن الوزارات فقدت مقرّاتها في غمضة عين، وستدفع إيجاراً سنوياً ضخماً، ولن تتمكن من الاستفادة من أصولها! وهو فتح جديد عبقري في عالم الإدارة لم يسبق لأي حكومة أن توصلت إليه.
وبعد سنوات من إشادة المسؤولين بما حققوه في ما يسمى “الإصلاح الاقتصادي”، وتقديم الوعود للمصريين بأن البلاد ستبدأ في مرحلة “جني الثمار”، بعد قرار تعويم العملة والحصول على قرض ضخم من صندوق النقد الدولي، فوجئ المصريون بأن الحكومة تتفاوض مع الصندوق على قرض جديد بشروط جديدة. كما فوجئوا بأن الصندوق يقول إن اقتصاد البلاد لا يزال هشّاً أمام الصدمات الخارجية “نتيجة الديْن المرتفع والفجوة التمويلية الكبيرة”، وإن ذلك يتطلب “إصلاحات هيكلية أعمق!”، وذلك حتى يتكرّم الصندوق، ويوافق على أن يمنح مصر قرضاً جديداً. وبالتأكيد، لسان حال المصريين يتساءل: “هل يوجد أعمق من هذا؟”. ذلك أن “الإصلاح” الأول أفقر الملايين ورفع الأسعار وأثقل كاهلهم، فإلى أين سيوصلهم هذا الإصلاح “الأعمق؟”. وربما كانت شروط الصندوق الجديدة سبباً في أن “يكتشف” الصحافي مصطفى بكري أن صندوق النقد هو السبب في تدمير الدول، وأنه “صندوق النكد” على حد تعبيره، وذلك في أثناء وصلة هجوم شنّها على الصندوق، متهماً إياه بأنه خاضع لسيطرة واشنطن! والعجيب أن مصر حصلت على قروض عديدة خلال السنوات الماضية من “صندوق النكد”، لكن بكري لم ينبس ببنت شفة وقتها، بل كان أداؤه وقتها، كغيره من مؤيدي النظام، التطبيل والإشادة بقدرة مصر على الاستدانة، وأن ذلك بمثابة “شهادة” تؤكّد قوة الاقتصاد المصري والثقة به، قبل أن يتبدّل الحال وتتوالى “الاكتشافات” على المسؤولين المصريين والمطبّلين لهم.