مقالات العربي الجديد

عن جدوى سلاح العقوبات

فرض الغرب عقوبات هي الأقسى في التاريخ ضد روسيا بسبب غزوها أوكرانيا، إلا أن بعضهم جادل بأن العقوبات لن تثني الرئيس الروسي بوتين عن المضي في الحرب حتى النهاية، مستدلين على رأيهم بعدة أسباب، منها أن العقوبات فرضت قبل ذلك على أنظمة عدة دول، ولم تغير من سلوك هذه الأنظمة، مثل كوبا وكوريا الشمالية وإيران والسودان وليبيا، وأن فرض العقوبات ربما يُحدث تأثيرا عكسيا، إذ يؤدّي إلى زيادة التفاف الشعوب حول قياداتها والتمسّك بها وزيادة النعرة الوطنية وشعارات الاستقلال الوطني ورفض التبعية للخارج.

قد تبدو تلك الأسباب وجيهة للوهلة الأولى، لكنها لا تصمد أمام أي تدقيق، فنظرة فاحصة للدول التي خضعت للعقوبات تكشف أنها تأثرت بشدة، وواجهت اضطرابات سياسية واجتماعية وأمنية كبرى، توّجت في السودان وليبيا على سبيل المثال بثورتين شعبيتين أطاحتا رأسي النظامين. وفي إيران، تسبّبت العقوبات في صعوباتٍ معيشيةٍ جمّة للمواطنين الذين خرجوا في احتجاجاتٍ حاشدة، بسبب تردّي الأوضاع الاقتصادية عام 2019، لتواجهها السلطات بالقمع الذي نتج عنه مقتل المئات واعتقال الآلاف. كما تسببت العقوبات أيضا في انحسار الدور الإيراني في المنطقة وفقدان نفوذه بشكل متسارع، بعدما انتفض اللبنانيون والعراقيون ضد سلطات بلادهم التي ترعاها طهران، وتعرّضت مقرّات الكيانات السياسية الموالية لإيران، وكذلك القنصلية الإيرانية في العراق، للحرق من المحتجين الغاضبين، كما خرج السوريون في مناطق سيطرة النظام نفسه في مظاهراتٍ احتجاجا على تردّي الوضع المعيشي بسبب العقوبات. أما كوبا وكوريا الشمالية، فهما نموذجان لا ترغب أي دولةٍ في الاقتداء بهما، إذ إن نظامي البلدين باقيان، لكن الشعبين يقاسيان الأمرّين وسط عزلة خانقة عن العالم، حتى إن الكوبيين خرجوا العام الماضي في احتجاجات حاشدة ونادرة ضد الحكومة بسبب انهيار الاقتصاد وشحّ المواد الغذائية وارتفاع الأسعار.

وبالعودة إلى الشأن الروسي، زاد المعارضون لنهج العقوبات أسبابا أخرى يرونها منطقية، مثل القول إن من المؤكد أن روسيا توقعت تلك العقوبات، واستعدّت جيدا لها طوال السنوات السابقة، وأن لديها احتياطيات ضخمة من العملات الأجنبية تبلغ أكثر من 600 مليار دولار.

مؤكّد أن الجزم بضآلة تأثير العقوبات أو قوته كلام سابق لأوانه، لكن هناك مؤشّرات تدل على تأثر الاقتصاد الروسي ومعيشة الروس جرّاء تلك العقوبات، خصوصا مع إطالة أمد الحرب وتعثر العمليات العسكرية على الأرض، كما أن نطاق العقوبات غير مسبوق، إذ شمل معظم الأدوات المالية الروسية، ووصلت حتى إلى رجال الأعمال المقرّبين من بوتين، والذين يُعتقد، على نطاق واسع، أنهم يسيطرون على جانب كبير من الأموال الروسية في الخارج، كما أن الاقتصاد الروسي مندمجٌ في الاقتصاد العالمي بشكل أكبر بكثير من الدول التي تعرّضت للعقوبات سابقا، ولذلك سيكون التأثير أكبر وأقوى وأقسى، وفقا لدرجة الاندماج تلك.

ونجد هذه المؤشرات من خلال عدة نقاط، فقد اعترف مسؤولون روس بأن العقوبات قاسية ومؤثرة، وإن قالوا، في الوقت نفسه، إنهم سيتجاوزونها، مثل إقرار وزير الخارجية، سيرغي لافروف، بأن العقوبات “غير مسبوقة”، واعتراف وزير المالية الروسي بأن العقوبات حرمت بلاده من نصف احتياطها من العملات الأجنبية، واعتبار بوتين العقوبات أنها بمثابة “إعلان حرب”، ووصف الكرملين الاقتصاد الروسي بأنه “في حالة صدمة” جرّاء العقوبات، وأخيرا تهديد روسيا بسداد الفوائد المستحقة على ديونها السيادية بالروبل وليس بالدولار، وهو تهديد يدلّ على ضعف وتراجع وليس قوة أو ثقة. كما انهارت شركات روسية وفقدت أسهمها معظم قيمتها، ما دفع الحكومة إلى اتخاذ إجراءات غير مسبوقة، من قبيل رفع أسعار الفائدة بشكل كبير وإغلاق البورصة أياما. كما سارع رجال الأعمال المقرّبون من بوتين إلى الهروب والقفز من السفينة وبيع ممتلكاتهم قبل مصادرتها، ومحاولين البحث عن بلادٍ تستقبلهم ليعيشوا فيها بعيدا عن جحيم العقوبات والمصادرات.

وعلى صعيد الحياة اليومية للمواطنين، ظهرت مشاهد لطوابير الروس على أبواب البنوك وأجهزة الصرّاف الآلي لسحب أموالهم، وظهرت طوابير أخرى أمام فروع “ماكدونالدز” قبل إغلاقها لمحاولة اللحاق بالوجبة الأخيرة! كما ظهرت مشاهد لمشاجرات وتسابق بين المواطنين للحصول على السكّر، بعد ارتفاع سعره وشحّه في الأسواق، ذلك كله ولم يمر شهر واحد على الحرب. ولذلك يبدو الجزم بأي نتيجة في الوقت الراهن غير منطقي.

تفترض الحجج التي تهوّن من شأن العقوبات أن من المفترض أن تؤدّي تلك الاستراتيجية إلى تغيير شامل وفوري ومباشر، لكنه افتراضٌ لا علاقة له بالهدف من فرض العقوبات، لأن تأثيرها يكون تدريجيا وتراكميا ويؤدّي إلى تغييرٍ غير مباشر، من قبيل الضغط على الأنظمة لتعديل سلوكها عبر تضييق الخناق عليها وإعادة اقتصادها عشرات السنوات إلى الوراء، وهو ما يحدُث الآن في روسيا، في انتظار ما ستسفر عنه تطورات الأحداث.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى