الجزيرة نت

سياحة الأخبار الحزينة في أوكرانيا وبلاد العرب

قبل أكثر من 10 سنوات كان العرب لا يعرفون إلا قدرا ضئيلا عن بعضهم، خاصة في أسماء مدنهم وقراهم، اللهم إلا بعض المدن الفلسطينية، نظرا لامتداد تلك المأساة على مدار عقود، وكذلك المدن العراقية بسبب احتلال العراق عام 2003.

لكن مع اندلاع الثورات العربية ونتيجة للتغطية الإعلامية المكثفة تعرف العرب بشكل كبير على مدن وحواضر لم يكونوا يدرون عنها شيئا، وأصبح البعض يحفظ عن ظهر قلب تفاصيل دقيقة عن الخريطة العربية، لكنها للأسف جاءت في سياق حزين وبائس.

لم نكن نعرف نحن العرب عن اليمن إلا صنعاء وعدن، وربما صعدة بسبب اندلاع معارك سابقة في عهد علي عبد الله صالح بين الجيش وجماعة الحوثي التي تتخذ من المحافظة معقلا لها، فضلا عن حضرموت بسبب انتشار مطاعم المأكولات اليمنية التي اتخذت من اسم المحافظة عنوانا لها

كان القليل من العرب يعرفون شيئا عن أسماء المدن التونسية، خاصة أن العاصمة تحمل نفس الاسم، عدا القيروان التي اشتهرت منذ الفتح الإسلامي، وكذلك صفاقس التي ينتمي إليها ناد رياضي شهير.

أما بعد الثورة التونسية فقد اشتهرت مدن مثل سيدي بوزيد التي أحرق فيها الشاب محمد البوعزيزي نفسه وأثار غضبا في طول البلاد وعرضها، فضلا عن أماكن أخرى مثل سيدي بوسعيد، إلا أن قصر مدة الثورة حتى هروب زين العابدين بن علي إضافة إلى مساحة البلاد القليلة نسبيا مقارنة بغيرها لم يتركا الفرصة لمعرفة الكثير.

جاءت بعدها الثورة المصرية التي سقط أول ضحاياها في مدينة السويس، وتبعه المئات في محافظات مختلفة، مثل الإسكندرية وبني سويف والأقصر، ثم سقط العشرات من مشجعي النادي الأهلي في “مذبحة بورسعيد” قبل أيام من الذكرى الأولى لتنحي مبارك.

وبعد ذلك بدأت تشتهر مدن أخرى على خريطة التغطية الإخبارية في شبه جزيرة سيناء بسبب الهجمات المسلحة على قوات الجيش والشرطة هناك، مثل رفح التي اشتهرت بمذبحتها الأولى عام 2012 والأخرى عام 2013، والشيخ زويد، وبئر العبد الذي قتل قرابة 300 شخص في أحد مساجدها.

وعلى الجانب الآخر من الحدود برزت واحة الفرافرة بعد قيام مسلحين بقتل 28 ضابطا ومجندا قرب الواحة، لتسمى المذبحة بالاسم نفسه.

وفي ليبيا -التي اقتصرت المعرفة بها على طرابلس وبنغازي- اكتسبت المدن بعدا آخر يتعلق بمجريات المعارك التي دارت بين الثوار وكتائب القذافي، فعرف العرب مدنا أخرى مثل مصراتة وصبراتة وطبرق ودرنة، ومدينة سرت التي كانت مسرحا لقتال شرس بين قوات حكومية ليبية ضد مسلحي تنظيم الدولة، واشتهرت بعدها الجفرة، وقد استولى عليهما حفتر.

وأصبحت المدينتان “خطا أحمر” أعلنه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في وجه قوات حكومة الوفاق الليبية، كما ظهرت مدن أخرى على المسرح بسبب استعادتها من قوات حفتر، مثل بني وليد وغريان وترهونة التي بقيت تظهر في الإعلام بسبب تكرار اكتشاف مقابر جماعية فيها بعد طرد قوات حفتر منها، والتي وصل عددها إلى نحو 80 مقبرة.

لم نكن نعرف -نحن العرب- عن اليمن إلا صنعاء وعدن، وربما صعدة بسبب اندلاع معارك سابقة في عهد علي عبد الله صالح بين الجيش وجماعة الحوثي التي تتخذ من المحافظة معقلا لها، فضلا عن حضرموت بسبب انتشار مطاعم المأكولات اليمنية التي اتخذت من اسم المحافظة عنوانا لها.

لكن السنوات الماضية أكسبت المشاهد العربي خبرة كبيرة في جغرافيا البلاد، فاشتهرت مدن مثل تعز المحاصرة منذ سنوات، ومأرب التي يسقط فيها العشرات يوميا جراء المعارك بين الحوثيين والجيش اليمني، وجزيرة سقطرى التي ظهرت فيها وفود إسرائيلية مؤخرا بعد اتفاق التطبيع بين أبو ظبي وتل أبيب، والحديدة التي أصبح ميناؤها شريان الحياة لاستقبال المساعدات الإنسانية للتخفيف من وطأة أزمة المجاعة التي تنهش أجساد اليمنيين في طول البلاد وعرضها، وبعد اندلاع النزاع بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي برزت مدن، مثل شبوة وأبين والضالع.

أما سوريا فهي الجرح الأكبر الذي لا يزال ينزف، فقد كانت معروفة بدمشق وحلب، وكذلك حماة المشهورة بمذبحتها الشهيرة التي خلفت أكثر من 40 ألف قتيل وفقا للجنة السورية لحقوق الإنسان.

أما بعد الثورة فقد أضحت أسماء المحافظات والمدن وحتى القرى السورية التي اشتهرت بمآسيها فوق أي قدرة على الحصر بعدما امتزجت فيها أحداث الاحتجاجات والمذابح والقصف والهجمات الكيميائية والنزوح والتشريد والاقتتال الأهلي، وكذلك المعارك التي دارت بين الكل ضد الكل.

وفي الموجة الثانية من الاحتجاجات العربية برز السودان الذي كان قد اشتهر قبل سنوات بسبب الصراع في دارفور، وبعد الثورة ضد نظام البشير أواخر 2018 سقط أكثر من 80 قتيلا، لكن كان معظمهم في العاصمة الخرطوم، وحتى عندما سقط المئات بعد ذلك أثناء فض اعتصام القيادة العامة كان ذلك في العاصمة أيضا.

لكن مدنا أخرى ظهرت تباعا بعد استمرار الاحتجاجات واستمرار سقوط الضحايا، مثل عطبرة التي اشتهر قطارها واكتسب رمزية كبيرة لدى الثوار السودانيين، وكسلا التي تحمل اسما لإحدى المجازر بحق الثوار، والبجا التي برزت بسبب تصاعد الأحداث في شرقي السودان.

ربما يكون الاستثناء الوحيد من الحراك الشعبي العربي هو الجزائر التي تحمل عاصمتها الاسم نفسه، إذ يمكن القول إن العرب لم يعلموا الكثير عن المدن الجزائرية أثناء الاحتجاجات ضد نظام بوتفليقة، وذلك لسبب بسيط هو أن تلك الاحتجاجات لم يسقط فيها أي قتيل ولم تحدث فيها أي مجزرة ولم تندلع فيها أي معارك، لكن ربما تكون الأجيال الأكبر سنا تعلم الكثير عن جغرافيا الجزائر بسبب العشرية السوداء التي عاشتها البلاد، أما الأجيال الأحدث فلا أعتقد أن هناك الكثير من المعرفة حول هذا الموضوع.

وأخيرا، جاء دور بلد غير عربي لم يخطر على بال كثيرين أنه سيكون يوما مسرحا لنفس النوعية من الأخبار، فقد ارتبطت أوكرانيا في المخيلة العربية بأشياء مختلفة تتعلق بالسياحة والترفيه، مع احتمال أن تكون لدى البعض معرفة بمدينة تشرنوبل الذي تسبب مفاعلها في كارثة نووية قبل عقود، ولذلك حظيت الحرب باهتمام كبير من المواطنين العرب، وأيضا بسبب وجود آلاف الطلاب العرب في أوكرانيا الذين أصبحوا محاصرين ويحتاجون للإجلاء، وكذلك بسبب تشابه الدمار الذي أحدثه القصف الروسي الوحشي على المدن الأوكرانية، والذي تشابه في جانب كبير منه مع ما حل بالمدن السورية والعراقية واليمنية.

أما في ما يختص بسياحة المدن فقد ظهرت مدن مثل كييف ولفيف ودونيتسك ولوغانسك وخاركيف وأوديسا وماريوبول وسومي وغوستوميل، لكن الأمر لم يخل من جوانب طريفة رغم المأساة الإنسانية، مع صعوبة حفظ أسماء مدن أخرى بدت عصية على النطق العربي، مثل تشيرنيهيف، وبيلاتسركفا.

ووصل الأمر إلى أننا عرفنا أن هناك قاعدة جوية أوكرانية تحمل اسم “ستاراوكوستنتانيف”، وذلك بعدما أعلن الجيش الروسي تدميرها، كما تجنب البعض ذكر أسماء بعض المدن باللغة العربية، لأنها قد تبدو وكأنها كلمات مشينة بالحروف العربية، حتى أن ناشطين عربا مهتمين بمتابعة مجريات الحرب والكتابة عنها على مواقع التواصل اكتفوا بكتابة أسماء تلك المدن باللغة الإنجليزية فقط، فيما طلب آخرون مازحين من متابعيهم ألا يتعبوا أنفسهم في محاولة حفظ الأسماء الغريبة والاكتفاء بمتابعة التطورات بشكل عام.

وقررت وسائل إعلام اختصار بعض تلك الأسماء عبر الاكتفاء بذكر الجزء الأول منها تجنبا لإرباك المشاهدين وكأن العرب كانت تنقصهم حرب أخرى حتى يهتموا بها إلى هذه الدرجة.

هذا ربما يجعلنا في زمن سياحي حدوده الكرة الأرضية كلها، الأمر الذي قد يورث بدوره في النفس تيها وارتباكا يجعلان الإنسان أكثر انتباها لتعرضه لوسائل الإعلام والتأثير الكبير الذي قد تحدثه في حياته وتؤثر عليها بكل الأشكال الممكنة.

تم نشر هذا المقال في الجزيرة نت

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى