السياسي الموظف وخدعة التكنوقراط
وجدنا أنفسنا، في االأسابيع الماضية، أمام ظاهرة جديدة في عالم السياسة، تحوّل بعض السياسيين إلى شخصيات أشبه بموظفي الدولة البيروقراطيين الذين يتحجّجون بأمور شكلية لإعاقة العمل وإجهاض أي خطط. ففي أرمينيا، رفض الرئيس آرمن ساركسيان توقيع قرار رئيس الوزراء، نيكول باشينيان، إقالة رئيس الأركان، على خلفية بيان أصدره الأخير، وطالب فيه باستقالة باشينيان. وتذرّع الرئيس بحججٍ من قبيل “حماية البلاد من المخاطر التي تهدّد النظام الدستوري والأمن”، وكذلك “ضمان الاستقرار وعمل القوات المسلحة”، على الرغم من أن الجيش هو الذي تسبب في الأزمة، وعرّض استقرار البلاد وأمنها ونظامها الدستوري للخطر. وعلى الرغم من أن توقيع القرار إجراء شكلي، نظرا إلى أن النظام في أرمينيا برلماني، بحيث يستحوذ رئيس الوزراء على معظم السلطات الرئيسية، ويكون دور الرئيس فيه رمزيا.
وفي تونس، يرفض الرئيس قيس سعيّد تحديد موعد لاستقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين القانونية أمامه ليبدأوا عملهم، مع أنها خطوة شكلية، ولا يحقّ له الاعتراض على اختيار هؤلاء الوزراء. وحتى إذا قرّر الاعتراض كما فعل، لا يحقّ له أن يعرقل مباشرتهم عملهم بتلك الطريقة. وللرئيس سعيّد “شطحات” عديدة مماثلة، مثل كتابته رسالة طويلة للغاية بخط يده إلى رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتصوير نفسه في أثناء كتابتها وتوقيعها وختمها، مثل أي موظف فخور بعمله، وفي أثناء إعطائها لرئيس الديوان، مع ارتجال خطبة عصماء بأسلوبٍ طريف، على الرغم من أنه يمكن أن يستغني عن هذا كله، ويكلف موظفيه بكتابة الرسالة على الحاسب الآلي ويوقعها ويرسلها من دون أن يتحفنا بذلك كله.
يصور قيس سعيّد نفسه أنه يترفع عن الخوض في الصراعات السياسية الضيقة، فيما هو أكبر معطل للعمل برفضه أداء الوزراء الجدد اليمين أمامه
يقول الرئيس سعيّد إن السلطة يجب أن تؤول إلى “الشعب” مباشرة، وهي فكرة تبدو وجيهة في ظاهرها، إذا كانت تتعلق بإيجاد طرقٍ ممنهجةٍ ومستمرّة للتواصل مع المواطنين مباشرة، والاستماع لمظالمهم وشكاواهم واتخاذ الإجراءات المناسبة لحلها، لكنها قد تصبح خطرة إذا انزلقت لتصبح أضحوكةً مثلما كان يقوم به معمر القذافي الذي أنشأ ما سمّيت “اللجان الثورية” بديلة عن الأحزاب والبرلمان ومنظمات المجتمع المدني، وكل ما من شأنه أن يكون وسيلة أو يمثل فرصة لمنافسته، حتى تحول البلد إلى نموذج يضرب به المثل في الديكتاتورية والغرائبية.
ظاهرة “السياسي الموظف” امتداد طبيعي لمرحلةٍ احتقرت فيها السياسة، وتصوّر بعضهم أن الحل يكمن في الإتيان بمسؤولين ممن يسمون “التكنوقراط” على أساس أن هؤلاء سيكونون خبراء في مجالهم، ولن تكون لهم انحيازات سياسية تؤثر على سير العمل. ولذلك وجدنا في تونس مثلا ظاهرةً عجيبة، اشتراط بعضهم تكوين حكومة “غير سياسية”، ولا تنتمي إلى أي أحزاب حتى يصوتوا لصالحها في البرلمان! على الرغم من أن تكوين الحكومة هو أصل السياسة، وأن تشكيل الحكومة في أي نظام سياسي في العالم يكون بناء على نتيجة الانتخابات التي تعطي لحزبٍ ما السلطة، لكي يشكّل الحكومة وفقا لرؤيته. وهي امتدادٌ لظواهر ودعوات أخرى عجيبة انتشرت قبل الثورات العربية وبعدها، من قبيل “اتهام” حركات المعارضة بأنها تسعى إلى السلطة! أو الحديث عن أن الحركة الفلانية “تسعى إلى تحقيق مكاسب سياسية”، وكأن هذا الأمر سبّة أو اتهام، إلى درجة أن شخصا دعا، أخيرا، في محادثة على تطبيق “كلوب هاوس”، المعارضة إلى ألا تكون لها “توجهات سياسية”، وأن تكتفي بالحديث عن أمور هامشية، مثل الدعوة إلى تحسين الطرق!
في النهاية، اتضح أن لدى أي إنسان في هذا العالم انحيازات تجعله يميل إلى سياسات وتجنّب أخرى، حتى لو كان يسمّى في الظاهر “تكنوقراط”، كما اتضح أن جميع القرارات وخطط العمل هي أمور سياسية، وأن التكنوقراطي الكبير، أستاذ القانون الدستوري الذي يصوّر نفسه باعتباره يترفع عن الخوض في الصراعات السياسية الضيقة، هو أكبر معطّل للعمل برفضه أداء الوزراء الجدد اليمين أمامه، بحجّة “تكنوقراطية” لا يقوم بها إلا الموظفون الغارقون في الروتين الحكومي!
نشر على موقع العربي الجديد بتاريخ 19/3/2021