استغلت الثورات المضادّة وأنظمة الاستبداد العربي مصطلحات وملفات من أجل محاربة الديمقراطية وقتلها تحت حجج شتى، أبرزها أن الثورات تؤدّي إلى تفكيك الجيوش الوطنية في الدول العربية، وبالتالي يجب دعم تلك الجيوش، حتى لو أدّى ذلك إلى الانقلاب على المسار الديمقراطي وارتكاب جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان. والحجة الثانية فزّاعة الإرهاب، بالادعاء أنّ أي مطالبات بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية هي أفعال إرهابية، واعتبار أي معارضة لأنظمة الحكم هي إرهابية بالضرورة. وأوضح مثال لذلك وضع عشرات السياسيين المصريين في قوائم الإرهاب، لمجرّد أنهم فكّروا في دخول انتخابات البرلمان المقبلة. لكن الحقيقة أن الحجتين سقطتا في أكثر من موضع، ففي ليبيا، مثلاً، تدعم السعودية والإمارات ومصر مليشيات خليفة حفتر التي تتكون من خليط من المليشيات القبلية والسلفية المدخلية المتورّطة في إعدامات ميدانية وجرائم حرب موثقة في محكمة الجنايات الدولية، فضلاً عن آلاف من المرتزقة السودانيين والسوريين والتشاديين، وأطلق على هذا الخليط الشاذ والمنحرف مسمّى “الجيش الوطني الليبي” في مواجهة قوات الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، أي الجيش الليبي الحقيقي، وبالتالي إذا كانت سياسة تلك الدول دعم الجيوش الوطنية، فيجب أن يقدم الدعم في هذه الحالة إلى حكومة الوفاق، وليس حفتر. وهذا لم يحدث، بحجّة أن حفتر “يحارب الإرهاب”، على الرغم من أن مليشياته ارتكبت عشرات جرائم الحرب الموثقة، الأمر الذي يجعلها إرهابية بامتياز.
وفي المقابل، تستنكف منصات وشخصيات مؤيّدة للديمقراطية في الوطن العربي عن وصف قوات حكومة الوفاق بأنها “الجيش الليبي”، على الرغم من أن الطرف الآخر يستخدم ذلك المصطلح بكثافة تصل إلى حدّ الوقاحة، عندما يتحدّث عن مليشيات حفتر، وهذه لا تتمتع بأي اعترافٍ من أي نوع. وقد يكون هذا الخوف أو الاستنكاف رغبةً في الظهور بمظهر الحياد والابتعاد عن كل الأطراف، ولكنه حياد زائف ومضرّ، لأن معنى المساواة بين الطرفين في هذه الحالة الانحياز إلى حفتر، فالشرعية الدستورية والدولية هنا واضحة في جانب حكومة الوفاق. ولذلك نحن أوْلى بذلك المصطلح من المعسكر الآخر الذي يحاول قرصنته ونسبته إليه. وفي هذا السياق، يجب أن نشيد بخطاب حكومة الوفاق ومنصّاتها الإعلامية، وكذلك تغطية وسائل الإعلام التركية، إذ فطن هؤلاء إلى تلك اللعبة في تحريف المصطلحات عن حقيقتها. ولذلك يتحدثون بوضوح عن “الجيش الليبي”، عندما يكون الكلام عن قوات حكومة الوفاق، وأيضاً يطلقون على مليشيات حفتر “العصابات الإرهابية”، وينعتون حفتر بـ”الإرهابي”، وهذان نعتان صحيحان.
يتكرّر الأمر نفسه في اليمن، إذ تدعم الإمارات مليشيات محلية تطالب بانفصال الجنوب، وتقاتل
الجيش اليمني الممثل للحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، على الرغم من أن تلك المليشيات تضم عناصر متطرّفة من تنظيم القاعدة وعناصر متورّطة في تفجيرات وعمليات إرهابية واغتيالات، وأبرز هؤلاء هاني بن بريك نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، هاني بن بريك، المتورّط في العشرات من عمليات الاغتيال في عدن، وسبق أن تورّط في صناعة السيارات المفخخة، وسجن بسبب ذلك في عهد علي عبد الله صالح، وأفتى أخيراً بقتل جنود الجيش اليمني، وهي فتوى إرهابية بامتياز من شخصٍ يستقبل على أعلى المستويات في أبوظبي، وسبق أن ظهرت صورة لبن بريك عام 2016 بصحبة انتحاري فجّر سيارة مفخخة، في مركز تجنيد للجيش اليمني في عدن، وأسفر الانفجار في ذلك الوقت عن مقتل 71 شاباً من طالبي التجنيد.
كما تضم قوات الانفصاليين المدعومة من الإمارات عناصر من تنظيم القاعدة أيضاً، وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أرسلت واشنطن محققين إلى السعودية والإمارات بشأن أسلحة أميركية الصنع، نُقلت إلى متمرّدين ومليشيات انفصالية وعناصر مرتبطة بتنظيم القاعدة في اليمن، بعدما كشفت شبكة سي إن إن الأميركية أن المركبات المدرعة الأميركية التي بيعت إلى الإمارات والسعودية تم نقلها إلى مجموعاتٍ تشمل مقاتلين مرتبطين بالقاعدة، ومليشيات انفصالية.
وفي الصومال تدعم الإمارات إقليم أرض الصومال، بعد أن طردت من الصومال وتجمدت العلاقات مع مقديشو، وتوقفت برامج تدريب الجيش الصومالي الممثل للحكومة الشرعية. كما أثبت تقرير للأمم المتحدة قبل عامين أن الإمارات تنتهك حظر الأسلحة المفروض على الصومال، وأنها متورّطة في تهريب الفحم الصومالي الذي يموّل حركة الشباب المجاهدين، المصنفة تنظيما إرهابياً، بقيمة 150 مليون دولار.
كل هذه الوقائع الموثقة في أكثر من بلد، وغيرها عشرات الوقائع الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها، تدمر السردية البائسة عن الجيوش الوطنية ومحاربة الإرهاب. ولذلك، يجب أن يكون استخدام المصطلحات واضحاً، ونتحرّر من الحياد الزائف، ونسمّي الأشياء بمسمّياتها، لأن ذلك يفيد في توجيه أصابع الاتهام إلى المتورّط الحقيقي في صناعة الفوضى في الشرق الأوسط.