نكسة يونيو الحفترية
الإسهام الثالث لحفتر في الفكر السياسي إطلاق أوصافٍ إبداعية لوصف الهزائم العسكرية،
لمحاولة تخفيف وقعها على مناصريه، على طريقة إطلاق اسم “النكسة” على الهزيمة العسكرية للجيوش العربية عام 1967، فعندما هزمت قوات حفتر وفقدت قاعدة الوطية الجوية، برّر رجاله تلك الهزيمة بأنها “انسحاب تكتيكي”! وهو تبريرٌ مماثلٌ للذي أطلقه الإعلام المصري قبل الإعلان عن الهزيمة، عندما قال إن الجيش المصري انسحب إلى “خط الدفاع الثاني”، من دون أن يوضح أن ذلك الخط يقع في الضفة الغربية لقناة السويس! كما زعمت قوات حفتر أنها “نجحت” في سحب ألف آليةٍ ومدرعةٍ وغرفة عمليات متنقلة ومعدّات عسكريه دقيقة، بالإضافة إلى “كافة الطائرات ومنظومات الدفاع الجوي والمستشفى الميداني، وكل الأطقم الطبية وسيارات الإسعاف”، وهو ما دفع ساخرين إلى التساؤل عن دوافع إصدار قرار “الانسحاب التكتيكي” من الأساس، طالما كانت القاعدة تحتوي هذا الجيش الجرّار؟
لم تتوقف المسميات الإبداعية الشاعرية الحفترية عند هذا الحد، فسرعان ما انتقلت قواته إلى مرحلة “إعادة التموضع” حول طرابلس، وهو مصطلحٌ يعني الهروب بسرعةٍ من كل محاور القتال جنوب العاصمة، وكذلك من مدينتي ترهونة وبني وليد، وكل المواقع التي كانت تحتلها قوات حفتر غرب ليبيا. وقرّر أحمد المسماري، المتحدث باسم حفتر، أن يدلي بدلوه، وقال إن هذا الانسحاب يتضمن “فك الاشتباك ببعض الأحياء السكنية المكتظة، بمناسبة عيد الفطر”، وهو ما دفع إلى التساؤل أيضا: أين كانت هذه المشاعر الإنسانية الرقيقة منذ أكثر من عام، لم تتوقف خلاله قوات حفتر عن قصف أحياء طرابلس وارتكاب جرائم قتل جماعية؟
جوانب أخرى غير مسبوقة تميزت فيها قوات حفتر بالريادة، منها إعلان “ساعة الصفر” أربع مرات، من دون أن يكون لتلك “الساعات” أي تأثير على مجريات المعارك، بالإضافة إلى قدرتها المستمرة على إمداد قوات حكومة الوفاق بالأسلحة! فقد استولت هذه القوات على عشرات من المدرعات والأسلحة والذخائر، وحتى الطائرات، وكذلك منظومة للدفاع الجوي، كلها تركتها قوات حفتر وراءها وسارعت بتنفيذ انسحاباتها التكتيكية المتسارعة، على الرغم من أن أساسيات العمل العسكري تؤكد ضرورة عدم ترك أي أسلحة وراء القوات. وفي حالة عدم القدرة على اصطحاب الأسلحة، يتم تدميرها قبل الانسحاب، حتى لا يستغلها الخصم عندما يحصل عليها. وهذا لم يحدث، وهو ما دفع القائد الميداني في قوات الوفاق، الطاهر بن غريبة، إلى تقديم الشكر لدولة الإمارات، على إسهامها في تسليح قوات الحكومة، قائلا “الإمارات كانت خير داعم لنا نظرا لما غنمناه من أسلحة وعتاد عسكري تابعة لها من قوات حفتر”.
وأخيرا، يأتي الإسهام العسكري الذي يعيدنا إلى أجواء هزيمة 1967، عندما زعم الإعلام
المصري إسقاط مئات من الطائرات الإسرائيلية، وهو ما تكرّر من قوات حفتر التي أعلنت إسقاط 107 من الطائرات التركية المسيّرة، وهو عدد يمثل أضعاف عدد الطائرات التركية في ليبيا، وربما يتجاوز عدد الطائرات المسيّرة التي أنتجتها تركيا نفسها! والشيء بالشيء يذكر، فقد احتفلت قوات حفتر بإسقاط طائرة مسيّرة، قالوا إنها تركية، ليتضح أنها صينية تابعة لهم، أي أنهم أسقطوها بأنفسهم واحتفلوا بهذا الإنجاز! فضلا عن عشرات من الأخبار المفبركة عن مقتل جنود أتراك، وإغراق فرقاطات تركية، مثل خبر نشرته صحف سعودية نقلا عن قوات حفتر، يزعم استهداف فرقاطة تركية تحمل اسم “مراد بك” وغرق مائتي جندي تركي كانوا على متنها، فيما البحرية التركية لا تمتلك أي فرقاطة بهذا الاسم! وخبر آخر عن أسر 40 جنديا تركيا، مع أن من المستحيل التكتم على هذا الأمر، فالمعارضة التركية ستفضحه، وغيرها من أكاذيب كثيرة تعيد أمجاد الإذاعي المصري أحمد سعيد، الصوت الأشهر المرتبط بهزيمة 1967.
ويبدو أن حفتر لم يرغب في أن تقتصر إسهاماته الإبداعية على المجال العسكري، بل يريد أن تمتد إلى السياسة أيضا، فقد احتوت ما تسمى “مبادرة القاهرة” التي أعلنها حفتر، على شروط عجيبة، بدا فيها وكأنه المنتصر، منها تفكيك قوات الوفاق وتسليم أسلحتها إليه! أي أن المهزوم يحاول فرض شروطه. كما لجأ حفتر إلى استجداء وقف إطلاق النار بعد هزائمه، على الرغم من العنتريات العديدة التي أتحفتنا بها قواته سنوات، ورفضت فيها أي حلول سياسية، وقالت في إحداها “وقت المحادثات انتهى والآن وقت البندقية”. بالفعل يبدو أن وقت البندقية قد حان، لكن ليس في الاتجاه الذي كان حفتر يتصوّره.