في مسألة آيا صوفيا
لم يستجب أردوغان، في البداية، لدعوات تحويل آيا صوفيا إلى مسجدٍ بعد مذبحة نيوزيلندا، قائلا إنه توجد آلاف المساجد الأخرى في تركيا وجميع أنحاء العالم، وأن هذه تداعيات خطيرة ستكون لهذه الخطوة على تلك المساجد، كما أشار إلى أن الصلاة تقام بالفعل في ساحة خاصة تابعة لآيا صوفيا، ويمكن توسيعها. إلا أن أردوغان عاد، ولمح إلى إمكانية تحويل آيا صوفيا مسجدا، في كلمة له في إسطنبول استعدادا للانتخابات البلدية.
يرتبط الجدل المصاحب لهذا الأمر برغبة حارقة لدى قطاعات من الإسلاميين بما يطلقون عليه “عودة” مسجد آيا صوفيا، لكنهم يتغافلون عن معنى هذه العودة المزعومة، لأننا إذا اعتمدنا على تحويل الأمر إلى أصله الأول، فإن المفترض تحويل آيا صوفيا إلى كنيسة، وليس إلى
مسجد، فالإسلام يحرّم تحويل الكنائس، أو دور العبادة، إلى مساجد، وقد رفض سيدنا عمر بن الخطاب أن يصلّي في كنسية بيت المقدس بعد فتح المدينة، حتى لا يقتدي المسلمون به من بعده، ويحوّلوا الكنيسة مسجدا. أما ما قام به السلطان محمد الفاتح فهو لا يعدو كونه عملا دنيويا بقوة السيف الذي هزم به البيزنطيين، وهو عملٌ قد يتفق حوله الناس أو يختلفون. وهناك بالفعل أقوال في هذا الفعل بين من يعتبره غير جائز شرعا ومن يقول بجوازه لأن المدينة فتحت بالقوة، وهو رأيٌ قد تكون له وجاهته، لكنه لا يتفق مع أدلة فقهية وتاريخية عديدة تحرّم ذلك الفعل. وفي كل الأحوال، لا يصح الاقتداء بهذا الفعل، واعتباره دليلا أو مرجعا يُقاس عليه، لأن محمد الفاتح لم يكن نبيا أو صحابيا، حتى يمكن أن تشكل تصرّفاته مثالا يُحتذى. كما أن تحويل بعض المساجد إلى كنائس، بعد هزيمة المسلمين في الأندلس، يجب ألّا تشكّل، هي الأخرى، قدوة لنا، لأننا يجب ألّا نقلد خصومنا في أفعالهم غير الحضارية، بحجة المعاملة بالمثل.
من المثير للتعجب كذلك أن بعضهم، في سياق دعوته وحماسته لتحويل آيا صوفيا إلى مسجد، يتعامل مع التاريخ وكأنه بدأ من فتح القسطنطينية، متغافلين عن قرون طويلة قبل ذلك التاريخ، كانت “آيا صوفيا” فيها كاتدرائية مسيحية، ومقرا للكنيسة الأرثوذكسية اليونانية، وهو موقفٌ يذكّر بمثقفين مصريين يستشهدون بصور نساءٍ مصريات في عقدي الخمسينيات والستينيات بدون حجاب، للتدليل على أن الحجاب نتاج ثقافة دخيلة على المجتمع المصري (!)، متجاهلين عمدا صور المصريات قبل ذينك العقدين، وأبرزها مثلا صورهن في أثناء مظاهرات ثورة 1919 وهن يرتدين الحجاب، والنقاب أيضا.
حسنا فعل أردوغان، عندما رفض، في البداية، الانجرار وراء تلك الدعوات الانفعالية الفارغة،
خصوصا أن دولا أوروبية، والاتحاد الأوروبي نفسه، قد طلبوا من تركيا، في أكثر من مناسبة، عدم استفزاز مشاعر المسيحيين، بتحويل المتحف مسجدا، وسيعتبر ذلك تصعيدا واستفزازا خطيرا، قد يؤد~ي إلى انهيار مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد، وهي مفاوضات متعثرة بشدة أساسا منذ سنوات. والمتمنّى أن تكون تصريحات أردوغان التي لمح فيها إلى إمكانية تحويل المتحف إلى مسجد مرة أخرى لأغراض انتخابية فقط، لا تتبعها إجراءات فعلية. كما أن المسلمين لا تنقصهم المساجد، حتى يخوضوا معركة عبثية من ذلك النوع، تتفنن قطاعاتٌ من التيارات الإسلامية بخوضها. ولذلك، فإن بقاء آيا صوفيا على حالته الحالية هو عين الصواب لإجهاض أي جدلٍ أو صراعاتٍ قد تتفجر حوله. وأخيرا، على المتحمسين لفكرة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد أن يدركوا أن التاريخ لم يبدأ من عام 1453 ميلادية، وأن يتفهموا مشاعر الآخرين ومخاوفهم.