معاناة المصريين قبل الموت وبعده
في وقتٍ يعقد فيه مؤتمر آخر من مؤتمرات الشباب التي لا تنتهي في مصر، وتكلف أموالاً طائلة بدون أي فائدة، وفي وقت تصرف فيه الدولة ملايين الدولارات من أجل ترميم مقابر اليهود، وتتجاهل الموتى الجدُد!
ويتضح جانب آخر من تلك المأساة، عندما نكتشف أن الحكومة كانت قد نفضت يدها بالكامل عن ملف نقل جثامين المصريين المتوفين في الخارج إلى مصر منذ عامين، عندما “اشتكى” وزير الصحّة من أن عملية نقل الجثامين كلفت الوزارة عشرة ملايين جنيه عام 2016، لتقرّر وزيرة الهجرة توقيع بروتوكول مع جمعية مصر الخير، تتولى فيه الأخيرة دفع التكلفة من جيوب المتبرّعين من الشعب المصري، أي إن المصريين، في النهاية، أصبحوا هم من يدفع تكلفة عودة موتاهم إلى أرض الوطن. ليأتي العرض النيوزيلندي وكأنه “طوق النجاة” للوزيرة التي لا تريد أن تكلف نفسها أو تكلف حكومتها شيئاً، بدلاً من أن ترفض العرض النيوزيلندي، وتصمم على أن تتحمّل الحكومة المصرية تكلفة نقل الجثامين، كأقل ما يمكن تقديمه إلى الضحايا وذويهم.
تذكّرت وأنا أقرأ تلك التصريحات “الرخيصة” ما شاهدته، عندما قادني حظي العاثر لزيارة القنصلية المصرية في إسطنبول لإنهاء إحدى المعاملات هناك. فعلى الرغم من أن مقر القنصلية يقع في واحدة من أرقى المناطق في إسطنبول، وعلى شاطئ البوسفور مباشرة، إلا أنني شعرت بأنني داخل واحدةٍ من مؤسسات البيروقراطية المصرية، فالموظف المسؤول عن إنهاء المعاملات والأوراق لا يكاد يعمل ساعتين في اليوم، وهو يترك المواطنين ينتظرون سيادته وقتاً طويلاً، حتى يتفضل عليهم، ويجلس إلى مكتبه، ويبدأ في تلقي الأوراق، وهو يتعنّت للغاية في تسهيل أي إجراءات مراعاة للظروف، فقد كنتُ أحتاج إلى إنهاء معاملتي في اليوم نفسه، إلا أنه أصرّ على أن أعود بعد يومين، على الرغم من شرحي ظروفي له، وعلى الرغم من أنها معاملة تافهة لا تستحق كل ذلك الوقت، مع دفعي مبلغاً طائلاً مقابل تلك المعاملة.
عندما عدتُ بعد يومين لتسلّم الأوراق، فإذا بي أجد سيدةً فقدت جواز سفرها في أثناء وجودها في إسطنبول في زيارة سياحية، وعلمت أنها جالسة في القنصلية منذ الصباح، والموظف الذي يعتقد أنه أهم شخص في العالم لا يكاد يفعل شيئاً لمساعدتها وطمأنتها. وتجسّدت المسخرة الكبرى عندما وقف الموظف، وطلب ممن يجيد اللغة التركية منا الذهاب مع السيدة إلى قسم
الشرطة، ليكون بمثابة “مترجم” لها لعمل محضر في الحادث، حتى يستخرج بعد ذلك وثيقة سفر للسيدة، حتى تعود إلى مصر بها، وهو ما جعلني أمسك نفسي بصعوبة، حتى لا أصاب بنوبة ضحك هيستيرية على المهزلة، فالمفترض أن السيدة لجأت إلى قنصلية بلادها لمساعدتها وتوفير كل ما يلزم لها، وكان من الأحرى أن توفر لها القنصلية مترجماً وأن ترسله معها، وتتابع الأمر حتى نهايته، فالوظيفة الأهم للسفارات والقنصليات خدمة مواطنيها في البلدان التي تعمل فيها. ولكن يبدو أن السلك الدبلوماسي والقنصلي المصري قد اخترع أولويات أخرى، يشغل بها نفسه عن أداء مهمته الأساسية التي يحصل بسببها الموظفون على رواتبهم.
وبعيداً عن تلك المهازل، كان المصريون على ما يبدو، العامل المشترك الأكبر في حوادث الموت خلال الشهرين الماضيين، من جنود الجيش المصري، الشباب الخمسة عشر الأبرياء، الذين قتلهم تنظيم داعش في سيناء، إلى أهالي سيناء أنفسهم الذين يتعرّضون للتصفية دورياً على يد قوات الأمن بدون محاكمات. ومات آخرون في المعتقلات بسبب الإهمال الطبّي، مروراً بالشباب الخمسة عشر الذين أعدموا بعد محاكماتٍ هزليةٍ خلال أيام معدودات، ثم وفاة شخصين نتيجة انهيار عقار جنوب البلاد (حادثة تتكرّر دورياً مثل حوادث القطارات)، وبعدها جاء حادث رمسيس الذي قضى فيه 23 مصرياً حرقاً، ثم كانت حادثة تحطم الطائرة الإثيوبية، وعلى متنها ستة مصريين مع 151 آخرين، وأخيراً جاء حادث نيوزيلندا الذي مات فيه أربعة مصريين، لتجتمع أسباب وأشكال وصور الموت جميعاً عليهم في الداخل والخارج.