العربي الجديدسياسةمصرمقالات العربي الجديد
الساعات الأخيرة.. كل هذا البؤس
نتفض أنصار الرئيس محمد مرسي وجماعة الإخوان المسلمين وبعض معارضي الانقلاب في مصر للهجوم على فيلم “الساعات الأخيرة” الذي بثته قناة الجزيرة قبل أيام، على الرغم من أنه قال الكلام نفسه الذي كان يتردّد منذ سنوات عما حدث قبل الانقلاب على مرسي وبعده. إلا أن أهميته، هذه المرة، أنه جاء على لسان خالد القزاز، وهو واحد من مساعدي مرسي نفسه، وممن كانوا قريبين منه في الساعات الأخيرة لحكمه، ويعرفون كيف كانت تُدار البلاد.
أمرٌ مهمٌ أكده الفيلم، وكشفت عنه عشرات الشواهد قبل ذلك، وهو طريقة جماعة الإخوان المسلمين في تعيين المسؤولين في الدولة، والتي لم تختلف عن طريقتهم في تعيين المسؤولين داخل الجماعة نفسها، وهي النظر إلى التزام الشخص بأداء العبادات ومظاهر التقوى الظاهرة، وفقط! والشواهد على هذا الأمر أكبر من أن تُحصى. وقد يكون مفيداً استرجاع بعضها في الوقت الحالي؛ ففي حوار مع صحيفة واشنطن بوست الأميركية عام 2015، سألت الصحيفة عبدالفتاح السيسي عن السبب الذي جعل مرسي يعيّنه وزيراً للدفاع، فردّ: “كان يعلم أنني مسلمٌ مُتدين؛ لذا اعتقد أنني أحمل أفكاره نفسها. لكنني أحاول أن أكون مسلمًا حقيقيًا، يحترم الآخرين ويحترم حرية الآخرين في اعتناق دياناتهم، أو ألَّا يؤمنوا بالله من الأساس”.
كما كشفت زوجة خيرت الشاطر، نائب مرشد الجماعة، في حوار سابق لها، أنه كان لدى “الإخوان” حسن ظن منقطع النظير تجاه السيسي، وأن زوجها كان يقول لها إن السيسي متديّن وملتزم وصوّام. وقد أكد هذا المعنى قطب العربي، الأمين العام المساعد للمجلس الأعلى للصحافة في عهد مرسي، والقيادي في جماعة الإخوان، عندما قال، في حوار صحافي سابق، إن السيسي نجح في إيهام “الإخوان” بتديّنه بعدة حيل، بينها البكاء في صلاة الظهر! كما اعترف قطب بأن “الإخوان” لم يكونوا يعرفون الكثير عن السيسي، وأنهم كانوا يعتقدون أن زوجته ترتدي النقاب! وهي معلومة بسيطة جداً، كان يمكن التحقق منها بسهولة، كما أنه لا يعقل أن يترقّى ضابط في الجيش المصري إلى رتبة لواء، وأن يتولّى منصب مدير المخابرات الحربية في عهد حسني مبارك، وتكون زوجته ترتدي النقاب في الوقت نفسه، وهو ما يدل على خلل فادح في منظومة جمع المعلومات وتحليلها داخل الجماعة، هذا إذا كان لديهم مثل هذه المنظومة أصلاً.
ولكن، لنفترض أن السيسي كان متديّناً، مثلما كان يعتقد “الإخوان”، فما أهمية ذلك؟ وكيف يعتقد “الإخوان” أن التدين يمكن أن يدل على أي شيء؟ معروفٌ مثلاً أن بين ضباط أمن الدولة الذين يعذبون المعتقلين متدينين أشد التدّين، ولا يفوّتون فرضاً في المسجد، إلى درجة أنه أشيعت حكاياتٌ عن هؤلاء الضباط، تفيد بأنهم كانوا يوقفون عمليات التعذيب، عندما يحل وقت الصلاة، ويصلّون خلف المعتقل الذي يعذّبونه! وهو ما يكشف عن أن الالتزام بمظاهر التديّن لا يدل على حقيقة أي شخص، وأن ذلك الجانب لا يصحّ أن يشكل أهمية عند تقييم الشخصيات، سواء في مجال السياسة أو غيره.
لم تقتصر سياسة اختيار المسؤولين وفقاً لتدينهم الظاهري على السيسي، بل تعدّته إلى شخصياتٍ أخرى أيضاً، فقد روى الصحافي عبدالرحمن يوسف واقعة اعتبرها، وله كل الحق، أحد فصول دالةٍ على تلاعب العسكر بالإخوان، إذ اختار مرسي اللواء أسامة الجندي قائداً للقوات البحرية، بسبب اعتياده الصلاة بصحبة قيادات من “الإخوان” في مساجد الإسكندرية، وحضور حلقات تلاوة القرآن معهم يومياً بعد صلاة الفجر. كما سرد يوسف، في مقاله، أسباباً توضح أن قائد القوات البحرية تعمد حضور الصلاة وحلقات تلاوة القرآن في ذلك المسجد تحديداً، لأنه كان معروفاً أن قيادات الإخوان المسلمين تصلي فيه بانتظام، وأنه هو من بادر بالتواصل معهم بعد الثورة مباشرة. وإذا بهذا اللواء الذي لم يكن يفارق المسجد يشارك في الانقلاب مع السيسي، وفي كل الإجراءات اللاحقة له، والتي من بينها اعتقال قيادات الإخوان التي كان يصلّي بجوارها!
ويبدو أن ضيف فيلم “الساعات الأخيرة”، خالد القزاز، قد لمس الهجوم عليه من أنصار “الإخوان”، فقرّر تبرير أحد المواقف التي حكاها في الفيلم بطريقةٍ مضحكة، فقال إن الفيلم لم يظهر ردّة فعله على كلام السيسي، عندما قال له: “نريد الحفاظ على المشروع الإسلامي”، والتي تمثلت في أنه كتم ضحكته بصعوبة، في إشارة إلى إدراكٍ لدى مرسي، والفريق الرئاسي، بأن السيسي يخدعهم، كما حاول عبد الله، نجل مرسي، الدفاع عن والده، قائلاً إنه تعرّض لمؤامرة طوال عام. وهنا سؤال: طالما كنتم تدركون أن السيسي يخدعكم، ويضمر لكم غير ما يظهر، وطالما كنتم متأكّدين من أن هناك مؤامرة طوال عام، فلماذا لم تعزلوا السيسي وتعينوا أي ضابط آخر مكانه، وهو قرارٌ من صميم مسؤوليات مرسي وصلاحياته، وكان سيؤدي إلى إحباط تلك المؤامرة التي لا شك أنها كانت موجودة بالفعل. الإجابة التي لا يستطيع القزاز وغيره من جماعة الإخوان قولها هي أن ثقة مرسي بالسيسي كانت عمياء، وأنه كان يصدّق فعلاً أن تحذير السيسي الخاص بالأسبوع ثم إنذار الثماني والأربعين ساعة كان موجهاً للمعارضة وليس له، حتى إن شهاداتٍ أخرى أكدت أن السيسي هو من اختار بنفسه محمد زكي قائداً للحرس الجمهوري، ومحمد إبراهيم وزيراً للداخلية، وصدقي صبحي رئيساً للأركان، أي أن مرسي ترك للسيسي حرية اختيار جميع الرجال الذين اعتمد عليهم بعد ذلك في تنفيذ انقلابه!
ظاهرة أخرى كشف عنها فيلم “الساعات الأخيرة”، وردود الأفعال الغاضبة منه، وهي ولع “الإخوان”، والتيارات الإسلامية بشكل عام، بقصص التاريخ الإسلامي وحكاياته، ومحاولة تقمصها، ومحاولة إعادة تمثيلها في الوقت الحاضر. ونجد لعبة التشبيهات التاريخية هذه في عشرات الشواهد السابقة. ويُكتفى هنا بذكر مثالين من سنوات ما بعد الثورة؛ فبعد الإعلان عن ترشيح خيرت الشاطر في انتخابات الرئاسة، نشط “الإخوان” في تشبيه الشاطر بأنه “يوسف هذا العصر” الذي خرج من السجن ليحكم مصر. وبعد استبعاد الشاطر من السباق، شبّه المحامي والقيادي في الجماعة، أحمد أبو بركة، مرسي، في تصريح منسوب له، بأنه “لقمان هذا العصر”.
وفي “الساعات الأخيرة”، حكى القزاز بتأثرٍ كيف امتنع مرسي عن إمامة مستشاريه في الصلاة الأولى بعد الانقلاب، وتقديمه أحد المستشارين الآخرين ليكون إماماً، وهو موقفٌ يحاكي ما فعله عمر بن الخطاب، بعدما تعرّض للطعن في أثناء الصلاة، وقدّم الصحابي عبدالرحمن بن عوف ليؤم المصلين مكانه. كما قال أفراد في أسرة مرسي (زوجته ونجله أحمد) إنه أخبرهم أنه اختار نهج سيدنا عثمان بن عفان. ما الذي يعنيه هذا الخيار بالضبط؟ ما أهميته؟ ما المفترض أن يؤدي إليه؟ لماذا لم يخرج مرسي ليعلن للناس أنه اختار هذا النهج ليترك لهم حرية الاختيار بين الاستمرار في مواجهة الانقلاب أو الاقتداء به، واختيار نهج سيدنا عثمان أيضاً، بدلاً من إيهام الناس بأن مرسي قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى منصبه؟.
هذه الأمثلة وغيرها شاهدة على ظاهرة الغرق في أحداث التاريخ، والتوهم بالقدرة على إعادة إنتاجها، وتقمص أدوار أبطالها، وهو توهمٌ مرتبط برؤية الإسلاميين، بشكل عام، للتاريخ، وهي رؤية تجعل التاريخ أقرب إلى الدائرة التي تتكرّر أحداثها، وبالتالي يمكن أن تتكرّر شخوصها.