العالم العربيالعربي الجديدسياسةمقالات العربي الجديد

ذكريات صومالية

ذهبت للمرة الأولى، والأخيرة حتى الآن، إلى الصومال في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2011، في مهمة إعلامية لتسليط الضوء على مأساة المجاعة التي حلت هناك، جرّاء موجة جفافٍ ضربت البلاد.
كان الصومال وقتها يعاني بشكل كبير جدا، فلم تكن هناك دولة أصلا بالمعنى المتعارف عليه، فالمطار صغير جدا يكاد لا يُرى، حتى أنني ظننت أن الطائرة ستسقط في المحيط في أثناء هبوطها، قبل أن أدرك أن المطار يقع بجوار المحيط مباشرة، وكان غرفتين صغيرتين بإمكانات بدائية.
أما البلاد نفسها فلم تكن الحكومة فيها تسيطر سوى على كيلومترات قليلة، ولم نكن نستطيع التحرّك وحدنا أبدا، بل برفقة مسلحين، وكثيرا ما تحركنا في شوارع كانت ساحة معارك طاحنة قبل أيام قليلة من وصولنا، وكانت آثار المعارك باقية. كما لم تكن هناك شوارع مرصوفة سوى واحد أو اثنين. أما الخروج إلى الشارع بعد الخامسة مساء فهو مستحيل، ولو برفقة حراس مسلحين.
نزلنا وقتها إلى مكانٍ قيل لنا إنه “فندق”، وكان يسمي نفسه “العالمي”، إلا أن مستواه كان متواضعا للغاية، وكثيرا ما كانت المياه تنقطع عن الغرف، وكثيرا أيضا ما كنا نسمع أصوات طلقاتٍ ناريةٍ في الخارج، ونحن في داخل “الفندق”، فنضطر إلى الانبطاح أرضا حتى يمرّ

الأمر بسلام. وعلى الرغم من ذلك، قيل لنا إن هذا أفضل مكان للمبيت في العاصمة، وإن كبار رجال الدولة السابقين والحاليين يقيمون فيه. وفي إحدى الليالي، جلست مع مواطن صومالي، أخذ يشير بيديه إلى الجالسين في فناء “الفندق”، ليخبرني باسم كل واحد منهم، ومنصبه المهم الذي يشغله، للدلالة على أهمية المكان الذي نقيم فيه، إلى درجة أنني تعرّضت لموقفٍ محرج وطريف في آن، فقد اقترح علي الصومالي الذي كنت أجلس معه أن أجري حوارا مصوّرا مع شخصيةٍ شغلت مناصب مهمة في الجيش والحكومة الصومالية، وأخبرني باسمه ومناصبه. وبالفعل، وجدت أن الأمر يستحقّ، فذهبت إليه، وطلبت منه إجراء حوار لفيلم وثائقي، نعمل على إنتاجه عن المجاعة في الصومال. وبالفعل، وافق الرجل وتحدّث طويلا، لكني كنت قد نسيت اسمه وصفته في منتصف الحوار، وكان الصومالي قد ذهب هو الآخر إلى حال سبيله، وخشيت أن نعود إلى الديار ونحن لا نعرف من هذا الرجل، فيستحيل استخدام المقابلة، فإذا بي أطلب منه، في نهاية الحوار، أن يخبرني باسمه ومنصبه، وهو ما أزعج الرجل كثيرا، لكني أخبرته بأن الأمر لغرض التوثيق التلفزيوني ليس أكثر، وأنه بالطبع غني عن التعريف!
ذهبنا إلى المخيمات التي تأوي الفارّين من جحيم المجاعة، ورأيت مأساةً كبرى ما زالت عالقة في ذهني، فقد كانت الأحوال كارثية. يعيش المنكوبون في أوضاع غير آدمية، ويأكلون القليل، هم وأولادهم الذين يعانون من سوء التغذية الشديد. ولم تكن جهود منظمات الإغاثة وقتها كافية.
على الرغم من هذه المآسي، ذهلت من الإمكانات المهدرة في هذا البلد، شواطئ رائعة، لكنها مهجورة وغير مستغلة، مع أنها يمكن أن تتحوّل إلى منتجعات لا تقل روعة عن تلك التي في هاواي. الفاكهة الصومالية لم أجد أشهى منها في حياتي، وتذوقت وقتها فواكه جديدة لم تقل روعةً، حتى أن شقيقي أخبرني مازحا بأن وزني قد زاد في الصومال، على الرغم من أنني كنت في بلد تضربه مجاعة.
عندما ذهبنا إلى لقاء وفد من اتحاد الأطباء العرب المقيمين هناك، وجدت إشعاعا من نور الأمل، بعد اطّلاعي على المجهودات الكبيرة التي يبذلها الأطباء في علاج المرضى الصوماليين. ووجدت شعبا في غاية الأدب والتواضع والمحبّة والتديّن. وعلى الرغم من كل الأوضاع الأمنية الصعبة، امتلأ المسجد الكبير في العاصمة مقديشو بالمصلين لأداء صلاة العيد.
تزامنت زيارتنا وقتها مع الزيارة التاريخية لرئيس الوزراء التركي في حينه، رجب طيب

أردوغان، وكان أرفع مسؤول أجنبي يزور البلاد منذ سنوات. ومن وقتها، انطلق الصومال إلى مرحلة جديدة من الاستقرار والازدهار واستعادة الأمن والسلام، تجلت في عشرات المشروعات التي أنجزت، بدءا من تأهيل مطار مقديشو مرورا بإنشاء مبنى البرلمان، وتقديم عشرات آلاف المنح الدراسية للطلاب الصوماليين للدراسة في تركيا، وتدريب الجيش وقوى الأمن، بالإضافة إلى تحسّن البنية التحتية والمؤسسات الخدماتية في قطاعي الصحة والتعليم، وفتح أول خط طيران دولي بين مقديشو واسطنبول لأول مرة بعد عشرين عاماً منذ إغلاق مطار مقديشو في وجه الطيران الدولي، إضافة إلى إنشاء مستشفى مقديشو، وإعادة بناء الطرق في العاصمة، وغيرها من مشروعاتٍ أرست دعائم الاستقرار.
منذ زيارتي تلك، ارتبطت بهذا البلد الحبيب، وظللت حريصا على الاطلاع، كلما أمكن، على أخباره، والتطورات التي تستجدّ فيه. وسرّني للغاية أن تتطوّر البلاد إلى هذه الدرجة خلال تلك الأعوام، وأن أجد شخصيات صومالية عديدة حققت نجاحات كبيرة في مجالات عدة، وأن يبدأ اسم الصومال في البروز إعلاميا في أخبارٍ لا تتعلق بالحروب والمجاعات والكوارث.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى