ديمقراطية بمعايير مصرية
يبدو أن الأديب علاء الأسواني كان في غيبوبة عميقة ست سنوات على الأقل، واستيقظ ليكتب منشوراتٍ انتهت صلاحيتها منذ زمن. نشر قبل أيام تغريداتٍ اتهم فيها الإخوان المسلمين بأنهم فاشيون، ومع المجلس العسكري (في مصر) في ذلك الوقت ضد الثورة، ولا علاقة لهم بالديمقراطية، لأن أفعالهم تتناقض مع أقوالهم.
حسنا، لنعد إلى المشهد السياسي المصري بعد ثورة يناير في العام 2011 وحتى الانقلاب في 2013، لنرى كيف حاول الأسواني، وغيره ممن يطلقون على أنفسهم أنهم “ديمقراطيون”، التعامل مع استحقاقات الثورة، لأننا سنكتشف أيضا أن خطيئتهم في حق الديمقراطية لم تكن فقط تأييد الانقلاب، بل كان تأييدهم تتويجا لكل ما فعلوه في الأعوام السابقة له.
منذ أول استحقاق انتخابي بعد الثورة، دبّ الذعر في معسكر الذين يطلقون على أنفسهم “ديمقراطيين” من نتائج الديمقراطية، بعد أن اكتشفوا أن خياراتهم ليست هي المفضلة لدى الشعب المصري، فظهرت دعواتٌ عجيبةٌ لم يتوصل إليها أحد قبلهم ولا بعدهم في العالم، مثل الدعوة إلى منع الأميين من التصويت في الانتخابات، أو احتساب صوت الأمّي بنصف صوت، وهي دعوة أطلقتها عدة شخصيات، منها علاء الأسواني نفسه الذي يختتم مقالاته دائما بعبارة “الديمقراطية هي الحل”! وبعد المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسية عام 2012، صُدم بعضهم من النتيجة التي قضت بدخول محمد مرسي مرحلة الإعادة مع أحمد شفيق، لتبدأ
اقتراحات “مسخرة” من بعض الجهابذة، من قبيل الدعوة إلى تنازل مرسي للمرشح الثالث حمدين صباحي ليدخل مكانه الإعادة! وبعد المرحلة الثانية وفوز مرسي، تحدّثوا عن ضرورة أن يستقيل الرئيس من حزبه “حتى يصبح رئيسا لكل المصريين”، وهو كلام لا معنى له، لأن الرئيس يمكن أن يكون لكل المصريين وهو ينتمي إلى أحد الأحزاب، مثلما الحال في معظم بلاد العالم التي ينتمي الرئيس أو رئيس الوزراء فيها إلى أحد الأحزاب، وفي الوقت نفسه، يحكم البلاد.
بعد ذلك، بدأ بعضهم يشكّك في قرارات الرئيس الجديد، بحجة أنه فاز في الانتخابات بنسبة أقل من 52%، مع الحديث عن أن المجتمع “منقسم على نفسه”، وكأنهم يحنّون لزمن الـ99.9% العربي. وهو تشكيك امتد إلى دستور 2013 أيضا، بعدما أقرّه الشعب بنسبة 63.8%، لأنهم رأوها نسبة قليلة لإقرار دستور، وهي حججٌ لا تستند إلى أي وقائع أو منطق سليم، لأن دول العالم تقرّ إجراءات مصيرية بنسبة أقل من ذلك بكثير، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بنسبة 51.9%، إلا أن “الديمقراطيين” المصريين لم تعجبهم نتائج الانتخابات المتتالية، ليخترعوا لفظا عجيبا وغير مسبوق، وهو “الصندوقراطية”، قائلين إن ما يحدث في مصر ما هو إلا احتكام إلى صندوق الانتخابات فقط، وأن ذلك لا يعني أن في مصر ديمقراطية حقيقية.
وبعد اشتعال المعارضة الداخلية لعدة أسباب، منها أخطاء حقيقية وقع فيها مرسي، بدأ هؤلاء في مطالبة من انتخب مرسي بالاعتذار! وكأنه كان من المفترض مثلا أن ينتخبوا شفيق. واستغلت جبهة الإنقاذ ذلك، لتقدّم واحدا من أغرب المطالب التي يمكن أن تقدّمها حركة معارضة، المطالبة بإقالة الوزير باسم عودة، بينما كان أنشط الوزراء وأنجحهم في حكومة هشام قنديل، بالإضافة إلى وزراء آخرين، كان بعضهم ناجحا جدا في عمله أيضا، مثل وزير الشباب أسامة ياسين، حتى لا يؤثر نشاطهم في الانتخابات.
الدليل الأكبر على غيبوبة علاء الأسواني، أو عدم إدراكه ما كان يقوم به، تجاهله ما قام به هو شخصيا بعد تلك الفترة، وخصوصا من 2013 وحتى 2015 على الأقل، من تمجيد
للانقلاب، والتحريض على المتظاهرين والمعتصمين الأبرياء، فقد كان له دور بارز في التحريض على فض الاعتصامات بالقوة، متهماً كل من يتسبّب في تأخير الفضّ بإهدار ما أنجزته “ثورة 30 يونيو” بحسب قوله.
“السيسي بطل قومي” أعلنها الأسواني، في سبتمبر/ أيلول 2013، وقبلها بشهرين، وصف السيسي، في لقاء مع الصحافي روبرت فيسك، بأنه “أهم قائد عسكري بعد أيزنهاور”. وفي العام الذي يليه، قال إن الشرطة المصرية تلعب “دوراً عظيماً في مواجهة العنف والإرهاب”، وإن هذه الحرب تعني أنه “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وليس من حقنا انتقاد أي تصرفات من الدولة حتى لو كانت فردية”، على حد قوله.
والآن، بعد ذلك كله، ما زال الأسواني وأمثاله يتكبّرون عن الاعتذار عما قاموا به من خطايا وجرائم بحق الثورة، بل ولديهم الجرأة والصفاقة للمزايدة على غيرهم، ومساويا بين “الإخوان المسلمين” ومؤيدي السيسي الذين كان هو منهم. بل وأعاد أخيرا تغريد منشورٍ عن “مذبحة رابعة”، متناسيا أنه كان أحد المحرّضين عليها، في حالة إنكارٍ فريدة. وها هي الذكرى السنوية للمجزرة تمر من دون أن يكلّف نفسه بكتابة سطر واحد يدين فيه ما حدث، لأنه كان من أركان التحريض الرئيسية التي مهدت لها.
لم نكتشف فقط أن خطيئة الأسواني وأمثاله بحق الثورة والديمقراطية كانت تتويجا لكل ما قاموا به بعد الثورة، بل اكتشفنا أيضا أنهم اخترعوا معايير عجيبة للديمقراطية، لا توجد في أي دولة، ويحاسبون الناس بناء عليها، هي ديمقراطيةٌ بمعايير مصرية، إن صحّ التعبير، معايير متخلفة، وبعيدة عن التنوير والتقدّم الذي يزعمون أنهم يمثلونه.