خرافات “مونديالية” عربية
انتهت بطولة كأس العالم في روسيا، ولم ينته معها الجدل الذي صاحبها، والذي تعلق بربط الحدث الرياضي بموضوعاتٍ أخرى، سياسية وتاريخية ودينية وثقافية، وهو جدل ارتبط، في أحيانٍ كثيرة، بأفكار وتصورات غير حقيقية عن رؤية العرب لقضاياهم والعالم.
نتجت أولى هذه النقاشات من الخيبة العربية الكبرى في المونديال، والتي تمثلت في خروج المنتخبات العربية الأربعة من الدور الأول، لنجد مقالات ونقاشات مطولة على مواقع التواصل ووسائل الإعلام عن أن تلك الخيبة طبيعية، لأن العرب متخلفون في كل المجالات، وأنه يجب تحقيق التقدم في تلك المجالات أولا، حتى نتقدم في كرة القدم، مع الإشارة إلى غياب الديمقراطية وقواعد الحكم الرشيد عن تلك البلدان، وغاب عن هؤلاء أن دولا عالمثالثية كثيرة تحقق نتائج أفضل بكثير من التي حققتها الفرق العربية، كما أن هناك دولا كثيرة من العالم الأول المتقدمة لا تحقق منتخباتها أي نتائج إيجابية. وإذا كانت حجتهم تلك سليمة، فيجب أن يكون لدى الولايات المتحدة أفضل منتخب كروي، باعتبارها الدولة الأقوى حاليا في المجالات الأخرى، لكن ذلك غير حقيقي، كما أن دولةً معروفة بثرائها ورخاء مواطنيها، مثل النرويج، لم تنجح أصلا في الصعود إلى المونديال.
ويقدم لنا التاريخ دروسا أخرى في هذا المجال، فقد فازت الأرجنتين بكأس العالم عام 1986 في ظل حكم ديكتاتوري شرس، اشتهر بقتل المعارضين وتعذيبهم وإخفائهم قسريا، كما أن مونديال روسيا نفسه شهد أداءً ممتازا من المنتخب الإيراني الذي كان قاب قوسين أو أدنى من الصعود، على الرغم من الحصار الذي تتعرّض له بلاده، والأزمات التي لاحقته قبل المونديال، ومنها رفض شركة الرعاية الرياضية تزويد اللاعبين بالأحذية، بسبب العقوبات الأميركية، ومع ذلك حقق نتائج طيبة. ويعني هذا كله أن الأمر مرتبط بإدارة رياضية جيدة، حتى لو كانت
الأحوال العامة للبلاد سيئة، فالقول إن النتيجة كانت حتمية هو في حقيقة الأمر تبرير للفشل الذريع الذي حدث، وليس نقدا حقيقيا، كما تصور أصحابه أنهم يفعلون، لأننا ببساطة نمتلك منظومةً رياضيةً فاشلة فعلا، وكان يمكن أن تكون ناجحةً، حتى بدون تحقيق تقدم في أي ملفات أخرى.
أما الجانب الآخر البارز الذي طغى على المناقشات العربية فهو إدخال البطولة الرياضية في سياق الاستقطاب السياسي والاجتماعي في البلدان العربية، فهناك من استشهد بالمنتخبات الأوروبية (فرنسا تحديدا) باعتبارها دليلا على كيفية دمج المهاجرين بنجاح، ودليلا على روعة “العلمانية”، وكيف أنها يجب أن تطبق في المجتمعات العربية، حتى يجد الجميع فرصا متساوية، ليرد آخرون بأن ذلك الأمر غير حقيقي، وأن فرنسا دولة استعمارية عنصرية، ارتكبت جرائم كثيرة بحق الشعوب التي استعمرتها، وأنها لم تدمج المهاجرين بالقدر الكافي، وأنها تستغل اللاعبين الأفارقة، لتصنع مجدها الكروي على أكتافهم، وهو جدلٌ حميد في ذاته، لكنه طغى بصورة كبيرة جدا على بطولةٍ رياضيةٍ، لا أكثر.
فيما اتصل جانب ثالث من الجدل بتشجيع أو عدم تشجيع منتخباتٍ بعينها، بسبب مواقف سياسية أو دينية، مثل تشجيع منتخب سويسرا، لأنه يضم لاعبين مسلمين في مواجهة صربيا التي ارتكبت حكومتها مذابح بحق مسلمي البوسنة وكوسوفو، أو تشجيع أي فريقٍ يلعب ضد روسيا، لأن جيشها يرتكب مذابح ضد الشعب السوري، أو دعوة رئيس نادي الزمالك إلى عدم تشجيع إنكلترا بسبب ماضيها الاستعماري في مصر والعالم، أو إعلان الحقوقي جمال عيد أنه سيشجع ألمانيا ضد كوريا الجنوبية، بسبب سياسة الأولى المتسامحة في استيعاب اللاجئين، مقارنة بكوريا التي تغلق الباب أمامهم، بالإضافة إلى الجدل الذي أثاره بعضهم بشأن تشجيعهم منتخبات الدول “الفقيرة” في مواجهة دول العالم الأول الغنية، وكأنهم بذلك ينتقمون من الدول الكبرى “الظالمة” من وجهة نظرهم، من دون أن يدروا أن جميع اللاعبين على أرض الملعب، سواء يمثلون بلدانا فقيرة أو غنية، هم أغنياء ومليونيرات، وأغنى بكثير من الغالبية الساحقة من مواطني دول العالم، الفقيرة والغنية.
والمضحك أنه يمكن استخدام الحجج نفسها لتبرير تشجيع الفريق نفسه، أو عدم تشجعيه، فيمكن مثلا أن تشجع فرنسا، لأن منتخبها يضم لاعبين من أبناء المهاجرين المكافحين الذين وصل أبناؤهم إلى ذلك النجاح، بفضل جهدهم المستحق، ويمكن أيضا ألا تشجّع فرنسا لأن أوضاع باقي المهاجرين فيها سيئة، وأن هؤلاء اللاعبين أقلية صغيرة جدا في بحر المشكلات التي يعاني منها باقي المهاجرين وأبناؤهم. حتى جاء الدور النهائي، ليشتعل الجدل بشأن هوية الفريق الذي سيشجعه الجمهور، فمن قائل إنه سيشجع “منتخب المهاجرين”، أو قائل إنه سيشجع منتخب كرواتيا “المكافح” الذي يمثله لاعبون عاشوا في مخيمات اللاجئين، ليرد آخرون بأن تاريخ كرواتيا لم يخلُ من الانتهاكات والمذابح في زمن حرب البوسنة.
اختفى هذا الجدل لصالح جدل زائف آخر، يتعلق بالانبهار الزائد الذي أبداه الملايين أمام سلوك
الرئيس الفرنسي والرئيسة الكرواتية، اللذيْن أبديا حماسة كبيرة في تشجيع منتخبيهما وتفاعلهما مع المباريات، ومقارنة بعضهم بين سلوك الرئيسين وسلوك الرؤساء العرب الذين يبدون متخشبين، وغير متفاعلين بالقدر الكافي في مثل هذه المناسبات، وهي مقارناتٌ سطحيةٌ مع كامل الازدراء للحكام العرب، لكن فات على هؤلاء أن الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مثلا يميني، وسياساته مضرة للغاية بالمصالح العربية في ليبيا وسورية ومصر التي يبيع أسلحة لحاكمها، عبد الفتاح السيسي، بمئات ملايين الدولارات، كما تجنب ماكرون انتقاده لدى زيارة هذا الحاكم أخيرا إلى فرنسا، قائلا إنه لن يعطي دروسا في حقوق الإنسان لأحد، في وقتٍ يعطي لنفسه الحق في إعطاء الدروس للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على انتهاكات أقلّ بمئات المرات مما في مصر.
أما رئيسة كرواتيا فقد امتزج الانبهار بها، بترويج معلومات زائفة وخرافات عديدة عنها، تحاول تصويرها وكأنها أعدل حكام الأرض بعد عمر بن الخطاب، مثل القول إنها تسببت في قفزة اقتصادية هائلة لبلدها، بعد أن باعت الطائرات الرئاسية وسيارات الوزراء، وخفضت راتبها ورواتب المسؤولين، وترويج مقولات كاذبة على لسانها تناصر فيها الشعب الفلسطيني، وتهاجم إسرائيل! وهي معلومات كشف الناشط أحمد سلامة، في منشور له على “فيسبوك”، أنها كاذبة تماما، وأن رئيسة كرواتيا لم تقم بأي من تلك الأمور، بل هي من مؤيدي إسرائيل، وامتنعت في الأمم المتحدة عن إدانة قرار الولايات المتحدة نقل سفارتها إلى القدس، كما أنها يمينية معادية للمهاجرين. ولكن بقي الانبهار بالسيدة هو السائد، ليكشف عن شوق العرب للحاكم الذي يتفاعل معهم، ولو في حدث رياضي، ولو على سبيل التمثيل.