مشكلات النخب “الثورية”
تزامن إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا مع الذكرى الخامسة لمظاهرات 30 يونيو والانقلاب العسكري في مصر. وفي المناسبتين، كشفت تعليقات من يسمّون أنفسهم “النخبة الثورية” أو “التيار الديمقراطي” في مصر عن مشكلاتٍ عدة في إدراكهم وطريقة تفكيرهم ورؤيتهم للأحداث، الأمر الذي لا ينفصل عن النتائج التي وصلت إليها الثورة المصرية في الوقت الحالي.
ففي الانتخابات التركية تحديدا، حرصت شخصيات مصرية على الإدلاء بدلوها في الشأن التركي، ويمكن تلخيص حديثها في الهجوم على الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ووصفه بأنه “ديكتاتور”، وبأنه لم يحصل إلا على 52% “فقط” من أصوات الناخبين، وكأن ذلك سببا للطعن في فوزه بالانتخابات، ناسين أو متناسين أن تلك النسبة، بل وأقل منها، طبيعية في جميع الدول الديمقراطية، وكأنهم يريدون أن يفوز أردوغان بنسبة 99% مثلما يحدث في بلادنا.
تطورت تلك المواقف إلى حد وصف بعض من هؤلاء مؤيدي أردوغان بأنهم “عبيد”، أي أن أكثر من نصف الشعب التركي الذي انتخب أردوغان هم “عبيد” في نظرهم، لأنهم أيدوا رجلا لا يحبّه، فمهما كانت الملاحظات على أردوغان وسياساته، إلا أنه لا يجوز بأي حال وصف أكثر من نصف الشعب بأنهم عبيد، لأنهم اختاروا مرشحا في انتخاباتٍ ديمقراطيةٍ، لا يستطيع أي من مهاجمي أردوغان التشكيك في نزاهتها.
يقود هذا إلى مشكلة ثالثة، وهي افتراض أحداثٍ لم تقع، وإعلان مواقف بناءً عليها، فقد أعلن عدد من هؤلاء أنهم لن يؤيدوا أردوغان على الإطلاق مهما فعل! وقال أحدهم مؤكّدا أن السجن أحب إليه من تأييد أردوغان. ووجه التعجب هنا أن أحدا لم يطلب من هؤلاء السادة تأييد أردوغان على الإطلاق، حتى يحرصوا على إعلان موقفهم هذا، فهم مصريون والانتخابات تحدث في تركيا، كما أن تأييدهم أردوغان أو معارضتهم له لن تقدم أو تؤخر في الأمر، لكنه الهوس بإعلان مواقف تبدو كأنها أخلاقية، حتى لو كانت افتراضية لم يطلبها منهم أحد، ولن تحدث إلا في خيالاتهم التي تصطنع معارك وهمية وعبثية، كما أن تلك المثالية الأخلاقية زائفة في حقيقة الأمر، لأن هؤلاء لم يلتزموا بتلك المواقف الأخلاقية على طول الخط، كما يحبون أن يصوّروا أنفسهم، وكانت لهم انحيازاتهم السياسية التي لهم الحق في اتخاذها. ولكن ليس لهم الحق في تقييم الآخرين، وإطلاق الأحكام الأخلاقية عليهم، وكأنهم أكثر أخلاقية.
بالعودة إلى الشأن المصري، والذكرى الخامسة لمظاهرات 30 يونيو، ففي مثل هذا “الموسم” من كل عام، ينشط بعضهم في إعلان عدم ندمه على المشاركة في المظاهرات، مبرّرا ذلك بأنها كانت تهدف إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وليس الانقلاب على الديمقراطية، مع التأكيد دائما أنهم لم يكونوا يوما ساعين إلى السلطة، وأن الصراع بين الإخوان المسلمين والنظام الحالي هو “صراعٌ على السلطة”، كأن السعي إلى الوصول إلى السلطة خطيئة، يجب الاعتذار عنها أو التبرؤ منها. وهي مشكلةٌ أخرى، تتكرر في خطابات هؤلاء الأشخاص، وتعبر عن مشكلةٍ في إدراكهم المشهد السياسي. والأنكى من ذلك أنهم، بعد كل ما حدث، وبعد تأييد معظمهم الانقلاب ما زالوا يكتبون أن المشهد السياسي في مصر منقسم إلى ثلاثة أقسام: عسكر وإخوان و”ديمقراطيين”، وينسبون أنفسهم إلى القسم الثالث، مع تكبّر واضح عن الاعتذار، أو حتى الإقرار بخطئهم في انحيازهم إلى جانب الانقلاب في بدايته.
ما زال هؤلاء إذن يتكبّرون عن الاعتراف بالخطأ، وعلى أنهم كانوا مجرّد غطاء مدني للانقلاب، مصوّرين أنفسهم طرفا بريئا وديعا، وقع ضحيةً بين طرفين يتصارعان على السلطة، بل ويتمادى بعضهم، ويؤكد أنه لو عاد به الزمن مرة أخرى، لكان قد سلك الطريق نفسه، بل ويتبجح بالسخرية مما يطلق عليها “سذاجة الإخوان” الذين جاءوا بالسيسي وزيرا للدفاع، من دون أن يتحدث عن سذاجته هو التي جعلته يؤيد السيسي فيما فعله بعد ذلك، حتى أصبح السيسي بفضل غباء أمثال المتحدث رئيسا. أما القول إنهم “خدعوا” بعدما ظنوا أن الجيش سيتدخل لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة فقط، ثم يعود إلى ثكناته، فهو يسقط أي اعتبار لهم، لأنهم في هذه الحالة أثبتوا أنهم كانوا “مغفلين” رسميا، كما أن بعضهم كان على علم بوجود اتصالاتٍ مع شخصيات عسكرية قبل المظاهرات، وفقا لشهادة الباحث والناشط السياسي، تقادم الخطيب.
أما القول إن الإخوان المسلمين “ركبوا الثورة”، واستغلوها للوصول إلى السلطة، فهو كلام مسخرة، يشبه إلى حد كبير قول السيسي، في وقت سابق، إن الإخوان “استغلوا الديمقراطية للوصول إلى الحكم”، فإذا كان الأخوة “الثوريون” يتأففون من السلطة أو السعي إليها، وفي الوقت نفسه، يعتبرون أي طرف آخر يفوز في الانتخابات “ركب الثورة”، لأنه ليس على هواهم، فماذا يريدون إذن؟
والحقيقة أن أزمة مصر مستمرة، طالما يتكبر الجميع، بمن فيهم الإخوان طبعا، عن تقديم المراجعات، ويتهم الآخرين فقط. وما زال الجميع أسرى المشهد نفسه منذ خمس سنوات.