الطغاة لا ينسون ثأرهم وجرائمهم
لم تكن حملة الاعتقالات التي شنّها النظام المصري أخيرا غريبة في حد ذاتها، لأنه معتادٌ على شن حملات مماثلة كل فترة وأخرى، كما لم يسلم أي تيار أو كيان من تلك الحملات، لكن للحملة الجديدة دلالات خاصة.
شادي أبو زيد، وائل عباس، حازم عبد العظيم، أبرز الذين ألقي القبض عليهم أخيرا، فضلا عن سياسيين آخرين، مثل شادي الغزالي حرب، وقبلهم عبد المنعم أبو الفتوح وهشام جنينة وسامي عنان. يشترك معظم هؤلاء في أن النظام كان عاقدا النية على الانتقام منهم، عندما تحين الفرصة، لأنهم يمثلون له إزعاجا بشكل أو آخر، أو لمجرد الانتقام والتشفي فقط.
وتعود حالة العداء بين السيسي وأبو الفتوح إلى عام 2013، عندما كشف عن تسريبٍ يجمع بين السيسي ورئيس تحرير صحيفة الأخبار في ذلك الوقت، ياسر رزق، إذ وصف السيسي أبو الفتوح بأنه “إخواني متطرّف” متسائلا عن مصيره إذا جاء الأخير رئيسا للبلاد، ليردّ ياسر رزق بأنه سيعلقهم “مثل الذبيحة”. ويبدو أن السيسي ما زال خائفا على نفسه من أبو الفتوح، إذ اعتقله بعد حوار للرجل مع قناة الجزيرة مباشر، فضح فيه النظام.
ولم يكن إعلان سامي عنان ترشحه لانتخابات الرئاسة أول الصدامات بينه وبين السيسي، إذ
تتواتر الروايات عن أن علاقة الرجلين كانت متوترة منذ عهد حسني مبارك، ويروي السيسي أن أحد الضباط الكبار قد أهانه عندما كان ضابطا صغيرا، فيما كشفت روايات، أكد إحداها النائب السابق والمرشح الرئاسي السابق، أيمن نور، أن هذا الضابط الكبير كان عنان نفسه، والذي كان قد رفض تولي السيسي منصب مدير المخابرات الحربية إبّان حكم مبارك، وفقا لما روته بعض الصحف. كما سبق لعنان أن أعلن ترشحه في انتخابات 2014، لكن السيسي نجح في ممارسة ضغوط، بمساعدة من المشير حسين طنطاوي، أجبرت عنان على التراجع، ليجد السيسي الفرصة سانحة هذا العام، لتصفية كل حساباته القديمة معه.
ولم يترك عبد الفتاح السيسي هشام جنينة، نائب عنان المفترض، فلديه ثأر قديم معه أيضا، وتحديدا منذ ثلاث سنوات، عندما صرح أن تكلفة الفساد في مصر 600 مليار جنيه، ليأمر السيسي بشن حملة ضد جنينة في الإعلام، انتهت بإقالته من منصبه، بتهمة التصريح بأرقام غير دقيقة عن تكلفة الفساد، وهو قرار طالما كانت يتوق إليه السيسي، لكنه لم يكن يستطيع أن يصدره نظرا لشعبية جنينة، وتصريحاته القوية ضد الفساد. وبعد الإقالة، حاول الرجل رد الصفعة للسيسي بتحالفه مع عنان، لكن اعتقال الأخير والاعتداء على جنينة ثم سجنه أحبط تلك المساعي ليحصل السيسي على انتقامه.
وكان شادي أبو زيد قد أثار ضجة كبرى منذ نحو عام ونصف العام، عندما أهان رجال شرطة في ذكرى ثورة يناير، عندما وزع عليهم “واقيا ذكريا” في أثناء احتلالهم ميدان التحرير لمنع وإحباط أي مظاهرات، وهو ما أثار ضجة هائلة في ذلك الوقت، وانطلقت الدعوات الإعلامية المسعورة تنادي بالانتقام و”الثأر” لكرامة الشرطة المهدرة. ثم بدا أن تلك الضجة قد أضرت النظام أكثر مما أفادته، إذ كأنه شعر أن الوقت ليس مناسبا للتحرك والرد على الإهانة، حتى لا يثير سخرية المصريين عليه أكثر من ذلك، فأرجأ الأمر إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية في مارس/ آذار من العام الذي يليه، مع محاولات دنيئة كالعادة في تشويه سمعة شادي أبو زيد، وترويج أخبار كاذبة عنه، وعن المضبوطات التي زُعم أنها كانت في حوزته.
أما حازم عبد العظيم، فيعود تاريخ رغبة النظام في الانتقام منه إلى فترة أطول، ففي بداية عام 2016، فضح كيف شكّل النظام البرلمان المصري من الألف إلى الياء، عبر أجهزته الأمنية والسيادية، وكيف تدخل في تشكيل القوائم، وتحديد المرشحين وتهديد الآخرين، وإجبارهم على الانسحاب من المنافسة، وقد اكتسب كلامه مصداقية كبيرة، نظرا إلى أنه كان من أشد أنصار عبد الفتاح السيسي، والمدافعين عنه، والهجوم على خصومه، كما كان مديرا لحملته الانتخابية، ما أثار فضيحةً لم يستطع النظام احتواءها. ومنذ ذلك الوقت، يتربص به النظام حتى اعتقله أخيرا بعد أكثر من عامين.
وكان المدون وائل عباس المعارض الأبرز لمسار 30 يونيو بأكمله منذ الإعلان عن حركة تمرّد في سنة حكم الرئيس محمد مرسي، إذ حذر من ارتباط الحركة بالأجهزة الأمنية والسيادية، وكان من أوائل من أطلقوا على “3 يوليو” انقلابا، وعلى ما جرى في ميدان رابعة العدوية في أغسطس/ آب 2013 مذبحة. وسافر إلى عدة دول، ليتحدث عن انتهاكات النظام طوال خمس سنوات، وسط عجز من النظام عن إيقافه، نظرا لشهرته الدولية، ويبدو أن النظام أخذ الضوء الأخضر لاعتقاله بعد الانتخابات الرئاسية، ليقوم بتصفية حسابه القديم معه.
ولا يترك عبد الفتاح السيسي نفسه فرصة إلا وتحدث عن “مذبحة رابعة” التي نفذها بحق معارضي الانقلاب، وكأنه لا يريد أن يترك الحدث للنسيان، بل هو يحرص، في كل مرة، على التذكير بالحدث، من دون أن يسأله أحد، ليؤكد أنه ليس مخطئا، وأنه اتخذ القرار الصعب بحجة عدم وجود بدائل أخرى. وكرّر، مرات، أنه لم يكن خائفا من الأميركان، بل كان خائفا من الله، متبعا ذلك بتهديدات مبطنة لخصومه ومعارضيه بأنه لا يوجد لديه أي مانع من تكرار المذبحة نفسها، إذا كان ذلك ضروريا، ومنها تهديده الأشهر بقدرة الجيش على الانتشار في طول البلاد وعرضها خلال ست ساعات. وهي سياسة مشابهة لسياسة حافظ الأسد في سورية عندما ارتكب مذبحة حماة عام 1982، واتخذ منها رمزا لحكمه، لتخويف كل من يجرؤ على مزاحمته على السلطة.
تخبرنا تلك الوقائع بأن الطغاة لا ينسون، سواء من أساء إليهم وأهانهم وعارضهم، أو حتى جرائمهم نفسها، بل هم يؤجلون معاركهم فقط، إذا كان الوقت غير مناسب، ويتحينون الفرصة للانقضاض، والأخذ بثأرهم مهما طال الزمن. كما لا يدعون أحدا ينسى جرائمهم، بل يحرصون على أن تبقى حيةً في الذاكرة، ليبقى الجميع خائفين. وهو درسٌ ربما نحتاج إلى أن نتعلمه منهم، وألا ننسى بدورنا ما فعله هؤلاء الطغاة، وأن نوثق قدر الإمكان كل جرائمهم، إذ ربما تأتي ساعة حسابٍ في وقت ما، وعندها نفعل جميعا ما فعله هؤلاء الطغاة فينا.