المصريون وتجاهل المسرحية
اشتكى “الذراع” الإعلامي، عمرو أديب، من عدم اهتمام المصريين بالانتخابات الرئاسية المقبلة، على الرغم من أنه لم يتبق عليها سوى أيام معدودة، واصفا هذه الحالة بأنها “خمول”. وهي ظاهرة لافتة فعلا، فقليلون جدا من المصريين يعرفون موعد الانتخابات أصلا، ونسبة أقل منهم تنوي المشاركة فيها، وفقا لمقاطع فيديو عديدة استطلعت آراء المصريين عن الانتخابات، منها مقطع لم يتمكن المشاركون فيه تحديد اسم الشخص الآخر المشارك في الانتخابات بجانب عبد الفتاح السيسي، وكلمة “بجانب” هنا ليست خطأ، فنحن لسنا بصدد شخص يمكن أن “ينافس” ضد السيسي، بل هو جزء من المشهد العام للانتخابات، ولذلك هو يقف بجانب السيسي حقيقة لا مجازا، وهو أصغر كثيرا من أن يتذكّره أحد أو يعيره أدنى اهتمام. فضلا عن أن المشاركين في الفيديو قالوا إنهم لا يعرفون موعد الانتخابات، كما أعلنوا عدم اهتمامهم بالمشاركة فيها من الأصل.
أما أحدث مظاهر تجاهل المصريين مسرحية الانتخابات الهزلية، فهو محاولة سيدة مسنة إعادة مشاهد انتخابات 2014 البائسة، عندما رقصت في الشارع على أنغام أغنية “بشرة خير” تأييدا للسيسي، لكن المارّة تجاهلوها و”تعاملوا مع المشهد، كأن شيئًا لا يحدث” وفقا لموقع مصر العربية الذي نشر الفيديو. ولذلك استنفرت أجهزة الدولة كل جهودها لمحاولة إقناع المصريين بالمشاركة، عبر حشد المؤسسات الدينية (الأزهر، الأوقاف، الكنيسة) والمؤسسات الحكومية والتعليمية لدعوة المواطنين إلى التصويت، وتخويفهم من عواقب عدم الذهاب.
وبالتالي، يمكن القول إن قليلين جدا من المصريين سيشاركون، ما لم تتدخل يد الدولة الخشنة، وتجبر الموظفين، وتحشد العمال والفلاحين تحت التهديد على التوجه نحو صناديق الاقتراع.
من المهم أيضا التأكيد على أن المصريين لن “يقاطعوا” الانتخابات، فمصطلح المقاطعة يعني أن هناك معرفة مسبقة بها، وأن قرارا واعيا قد اتخذ بعدم الذهاب إلى صناديق الاقتراع لأسباب معينة، لكن المصريين، هذه المرة، لم يهتموا بأي شيء متعلق بهذه التي تسمى مجازا “الانتخابات”، بداية من موعدها أو المرشحين فيها أو كيفية المشاركة والتصويت، وبالتالي فهم في الحقيقة يتجاهلونها كليا، هي وكل ما يمت لها بصلة.
ليست تلك المظاهر الأولى من نوعها التي تدل على “تجاهل” المصريين المطلق للسيسي، وعدم اكتراثهم بكل ما يمت له بصلة، وإن كانت تظهر جليةً في تلك الانتخابات، فهناك عشرات الوقائع المماثلة التي تكشف الظاهرة، بدءا من انتخابات عام 2014 نفسها، التي تجاهلها المصريون بصورة كبيرة، أدت إلى ذعر هائل من أذرع النظام الإعلامية التي استجدت المصريين النزول والمشاركة في الانتخابات، واتخذ قرار بمد فترة التصويت يوما ثالثا، بحجة السماح للمغتربين بالسفر والمشاركة في الانتخابات في محافظاتهم، لكن اليوم الثالث لم يقل فضائحيةً عن سابقيْه، لتكون تلك الانتخابات أفضل استفتاءٍ على شعبية السيسي الوهمية التي يروج منافقوه أنها أسطورية.
أما دعوات السيسي الهزلية، من قبيل دعوات التبرع لصندوق “تحيا مصر” و”صبّح على مصر بجنيه” والتبرع بـ”الفكة” لصالح الاقتصاد المصري، فلم تكن أفضل حالا من ناحية تجاهل المصريين لها، فقد بلغ إجمالي التبرعات لصندوق تحيا مصر 7.5 مليارات جنيه فقط، منها مليار من القوات المسلحة، على الرغم من أن السيسي أعلن أنه يريد 100 مليار جنيه من هذا الصندوق، وهو تجاهلٌ أغضب السيسي وجعل مدير الصندوق يكشف عن أن السيسي “زعلان” من الوضع المالي للصندوق، وبالفعل خرج السيسي ليعلن إحباطه من الرقم الذي لم يكن ينتظره. أما مبادرة “صبّح على مصر” فكان آخر رقم معلن لها هو 15 مليون جنيه، أغلبها رسائل متكررة من أشخاص مؤيدين للسيسي، وهو رقم تافه بالنظر إلى أن الأخير كان يستهدف جمع أربعة مليارات جنيه في العام من هذه المبادرة، وهو رقم لا يعتبر شيئا مقارنة مثلا مع القروض الحكومية التي تحصل عليها خلال أقل من أسبوع. ويكشف هذا عن تدهور فادح في نظرة المصريين للسيسي، وتجاهل السواد الأعظم من الشعب له، وانهيار أسطورة “مخلص مصر” التي جاء بها منقلبا على ثورة يناير، وأسطورة مصر التي ستصبح “قد الدنيا”، بعد أن تحول الأمر مجرد التخويف من مصير سورية والعراق.
المشروع الأكثر إثارة للسخرية هو “مبادرة الفكّة”، والتي لم تنفذ فقط، بل تجاهلها الجميع، بمن فيهم أجهزة الدولة نفسها، ولم تشرع في تنفيذها من الأصل، على الرغم من الإعلان عنها قبل أكثر من عام ونصف العام، إلا أن البنوك بدأت، قبل أيام، الإعلان عن نيتها تفعيل “المبادرة”، ولكن بشرط الحصول على موافقة العميل كتابيا على ذلك، ما سيعني بالضرورة أن الأرقام التي ستنتج عنها تلك المبادرة ستكون لا تذكر، على الرغم من بدء حملة البروباغندا الإعلامية للمبادرة، وحديث بعض المطبّلين للنظام أنها ستجمع 18 مليار جنيه!
امتد هذا التجاهل حتى إلى من كان يريد الاستفادة من أسطورة شعبية عبد الفتاح السيسي الزائفة، فقد نشر موقع مصر العربية قبل أشهر شكوى بائع في حديقة الحيوان من عدم اهتمام المصريين بشراء بالونات عليها صورة السيسي، بعد أن وضعها متصوّرا أن المصريين سيقبلون عليها في عيد “شم النسيم”، إلا أنهم تجاهلوه ولم يشتروا منه. كما اشتكى رئيس تحرير صحيفة مصرية موالية للسيسي، وأحد كبار الطبالين له، من عدم تفاعل المدعوين في إحدى الحفلات التي حضرها مع أغنية “تسلم الأيادي” التي لحنها المطرب مصطفى كامل، وغناها مطربون، وتعتبر أيقونة الانقلاب العسكري، كما لم يستجب أحد من المدعوين لطلب المغني ترديد الأغنية وراءه، إلى درجةٍ أحرجته كثيرا.
تشبه ظاهرة تجاهل المصريين السيسي تلك الأيام ما قام به المصريون أنفسهم في أواخر عهد حسني مبارك، عندما لم يعودوا يكترثون بمتابعة خطاباته أو أنشطته الرسمية، أو حتى ما تقوم به الحكومة والوزراء من الإعلان عن الإنجازات الوهمية، وانصرفوا عن متابعة الإعلام
الحكومي الرسمي، واتجهوا إلى الفضائيات الخاصة والأجنبية، تاركين مبارك ورجاله يحدّثون أنفسهم، وهو ما يحدث حاليا في مؤتمرات السيسي واحتفالاته الكثيرة التي تقام بشكل شبه يومي، إذ يحضر الأخير الاحتفال، ويجمع وزراء ومسؤولين ليلقي عليهم كلاما مكرّرا عن الإنجازات، ويقول المسؤولون هراء متكررا عن الأمر نفسه، لكن لا أحد من المصريين يهتم على الإطلاق. وإذا كانوا قبل ذلك يتابعون خطابات السيسي، ليستخرجوا منها أبرز تعبيراته، ليسخروا منها، إلا أنهم حاليا لم يعودوا يهتمون حتى بذلك الأمر.
في الفيلم الأميركي “V for Vendetta” ظهر الديكتاتور ليلقي خطابا غاضبا على الشعب، تزامنا مع حلول موعد اندلاع الثورة ضده، أرغى الديكتاتور وأزبد، وتوعد من يخرج من الشعب للتظاهر بالتنكيل والويل والثبور وعظائم الأمور، لكن الكاميرا تتنقل بين عشرات المنازل الخاوية، في دلالةٍ على أن أحدا لم يسمع ذلك الخطاب أصلا، وأن تهديدات الديكتاتور وكلامه الأحمق لم يعد يخيف أحدا، أو يهتم بها أحد من الأصل. ومؤكد أن مسرحية الانتخابات الرئاسية في مصر ستشهد فضيحة تاريخية من ناحية الإقبال على التصويت، وسيكون التجاهل هذه المرة تتويجا لمسيرة أربع سنوات من حكم السيسي، وأوضح وأكثر دلالة من أي وقت مضى.