رسائل داعش التي عفا عليها الزمن
كانت هذه الرسالة مؤثرة وجذّابة بالفعل من 2013 وحتى أوائل 2017، عندما كان التنظيم في قمة عنفوانه، إذ سيطر، خلال تلك السنوات، على الرّقة والموصل والرمادي وتكريت والفلوجة وجرابلس والباب ومنبج وأجزاء كبيرة من دير الزور، فضلا عن عشرات المناطق والأنحاء الأخرى في سورية والعراق، بالإضافة إلى مدينة سرت في ليبيا، كما كان الشباب
العربي لا يزال في مرحلة “الصدمة” عقب تعثر الثورات، خصوصا بعد انقلاب السيسي في مصر، وانقلاب الحوثيين في اليمن، والتدخل الروسي في سورية، والتهديد الذي تعرّضت له التجربة التونسية، ومحاولة خليفة حفتر الانقلابية في ليبيا. ولذلك، شكل التنظيم حلا للشباب اليائس الذي اعتقد بعضهم فعلا أن السلاح هو الحل. أما أن يستمر التنظيم في ترويج الرسالة نفسها، فهذا غير مفهوم، ويدل على مرحلةٍ من الإفلاس، وصل إليها التنظيم، بما فيها فرعه في مصر، بعد أن خسر معظم المناطق التي كان يسيطر عليها، كما تراجعت وتيرة عملياته في مصر بشكل كبير، خصوصا بعد الكشف عن مشاركة سلاح الجو الإسرائيلي في شن غاراتٍ وتوجيه ضرباتٍ إلى التنظيم في سيناء، ما أفقده القدرة على الحركة وشن الهجمات، كما تعرّضت مصداقية التنظيم في مصر لضربة هائلة بعد مذبحة مسجد الروضة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فعلى الرغم من عدم إعلان التنظيم رسميا عن تبنيه العملية، إلا أنه التنظيم الوحيد الذي يمكن أن يقوم بعملية مماثلة في سيناء، خصوصا أن مجلة دابق التابعة للتنظيم الأم قد نشرت، قبل عام من الهجوم، نيتها استهداف المساجد والزوايا الصوفية
وجميع شيوخها وأتباعها في مصر وخارجها بما فيها سيناء، وحدّدت المجلة تلك المساجد بالاسم، وكان منها مسجد قرية الروضة الذي جرت فيه المجزرة. كما تبنّى التنظيم عمليات اغتيال وإعدامات سابقة لشيوخ صوفيين في سيناء، أبرزهم الشيخ سليمان أبو حراز (98 عاما)، أحد أكبر مشايخ الطريقة الصوفية، والذي نشر التنظيم فيديو يظهر إعدامه ذبحا، بعد اختطافه من منزله في مدينة العريش. كل هذه القرائن لا تترك مجالا للشك في مسؤولية التنظيم عن العملية التي أثارت غضبا عارما لدى المصريين، هي والعمليات الأخرى التي استهدفت المسيحيين، والتي قطعت كل تعاطف كان يحصل عليه التنظيم بسبب سياسات القمع التي يمارسها نظام السيسي. ولذلك أصبح التنظيم في حاجة ماسة إلى تصحيح صورته، باسترجاع أساليب دعايته الأصلية التي كان يقتات عليها قبل ذلك، ولكن فاته أن تلك الدعاية عفا عليها الزمن.
والغريب أن التنظيم يستشهد، في إصداره الجديد بعملية الاستيلاء على مدينة الموصل بعدة مئات من المقاتلين، وكأن المدينة لا تزال تحت سيطرته، وكأننا مازلنا نعيش عام 2014، فقد تجنب الإصدار الحديث عن مصير المدينة التي هزم فيها وخسرها في عمليةٍ أدت إلى مقتل عشرات آلاف المدنيين، وشكلت ضربة قاصمة له وخسارته معقله الرئيسي.
لم يستوعب “داعش”، إذن، أن العنف لم يعد يجذب أحدا، بعد أن علم الجميع مآلاته، وأدركوا أن القوي هناك من هو أقوى منه، وأن العنف فشل كما فشل قبل ذلك في أماكن أخرى من العالم، مثل أفغانستان والشيشان والجزائر، وأخيرا سورية التي لنا فيها عبرة، بعد أن تشرذم المقاتلون إلى مئات الفصائل التي يقاتل بعضها بعضا أكثر مما تقاتل النظام، وأصبح قائد كل فصيل يسيطر على عدد من الشوارع، يظن نفسه يستحق أن يكون قائدا عسكريا فوق الجميع، فضلا عن عشرات المشروعات الفاشلة التي حاولت توحيد تلك الفصائل، ولم تؤد إلى شيء، من “الجبهة الإسلامية” إلى “الهيئة الإسلامية” وغيرهما، ما أدى إلى خسارة المدن والمنطق تباعا لصالح “داعش” أو النظام.
إصدار التنظيم دليل آخر على الخسائر التي يتعرّض لها “داعش” في كل مجال، حتى في أحد أبرز المجالات التي طالما برع فيها، وهي الدعاية.