محمود سعد وموسم التبرؤ من السياسة في مصر
كما كشف سعد أنه “طُلب منه” ألا يتحدث في السياسية، وبالتالي فهو لن يعمل على تغطية الأحداث السياسية في برنامجه الجديد، وإنما “تناول الأحداث التي تمر بالبلد من وجهة نظر البسطاء وليس الصفوة”، على حد قوله.
وعلى الرغم من التاريخ المهني الحافل لمحمود سعد، الذي تجاوز 35 عاما، ورغم عمله في السياسة طوال أعوام عدة تعود إلى ما قبل ثورة يناير بسنوات، إلا أنه تحدث عن وجود أوامر بعدم الحديث في السياسة وامتثاله لها وكأنه أمر طبيعي، دون أن يعتبر ذلك إهانة أو يثير ذلك حفيظته.
اختلفت صورة محمود سعد الحالية كثيرا عن مثيلتها قبل الانقلاب العسكري، فقد كان يتحدث بصورة يومية في الأحداث والتطورات السياسية، وكان يعارض بشدة حكم الرئيس المعزول محمد مرسي في ذلك الوقت، محملا مرسي والإخوان المسؤولية عن أي إخفاقات حتى لو كانت متوارثة من حقبة مبارك أو المجلس العسكري، حتى إنه تورط أكثر من مرة في ترويج شائعات على الهواء، مثل شائعة شراء “خيرت الشاطر” نائب مرشد الإخوان 7 طائرات من شركة مصر للطيران “لتكوين أسطول إخواني”، وكذلك إذاعته تصريحات ملفقة على لسان الداعية “صفوت حجازي”، الذي اتصل بالبرنامج ليلوم محمود سعد على الخبر الكاذب الذي أذاعه، فما كان من الأخير إلا أن دخل معه في مشادة كلامية انتهت بأن أغلق الهاتف في وجهه.
كما شن محمود سعد هجوما شرسا على “باسم عودة” وزير التموين السابق، الذي كان يتلقى الثناء على عمله حتى من المعارضين، لأن الأخير أعلن عن سلع جديدة ستضاف إلى بطاقة التموين للمواطنين المصريين. وقد انتقد سعد بشدة ذلك التصريح واعترض على وصف عودة لتلك السلع بأنها “هدية” للشعب المصري، واصفا إياها بأنها “رشوة” للمصريين حتى لا يخرجوا في مظاهرات ضد الإخوان، وأنها إهانة لم ير مثلها في حياته، كما شن سعد هجوما آخر على المحافظ الإخواني “سعد الحسيني” لأن الأخير قام بجولات تفقدية بعد أداءه صلاة الفجر، فقد استنكر محمود سعد تلك الجولات وتساءل عما إذا كان الحسيني يعتقد نفسه “عمر بن الخطاب” دون أن يوضح السبب الذي يدفعه للاعتراض على محاولة أحد المسؤولين التشبه بعمر بن الخطاب.
لم يكن سعد هو الوحيد الذي “اكتشف” أنه لا يحب السياسة وأعلن تبرؤه منها، فقد سبقه زميله “إبراهيم عيسى” الذي لم يكن أقل من زميله في المعارضة زمن الإخوان، لكن عيسى أضاف إلى سجله تحريضا واضحا ضد المعتصمين في رابعة بعد الانقلاب في برنامج على قناة “القاهرة والناس” في ذلك الوقت، إذ اتهمهم بأنهم مصابين بـ”الجرب” داعيا إلى فض الاعتصام بالقوة المسلحة، مستشهدا بما قامت به حكومة جنوب أفريقيا عندما قامت بفض اعتصام عمال المناجم بالرصاص وقتلت العشرات من العمال، مطالبا بتكرار التجربة في مصر، وهو ما حدث فعلا. كما لم تسلم منه ثورة يناير بعد أن ساهم في تبرئة مبارك من تهمة قتل المتظاهرين، إذ شهد لصالح المخلوع مبارك أثناء المحاكمة، وهاجم ثوار يناير مرات عدة واصفا إياهم بالمراهقين و”المخنثين”. لكن بدايات عيسى مع السيسي لم تكن موفقة، عندما حذره الأخير على الهواء مباشرة من أن ينطق كلمة “عسكر” مرة أخرى، ليمتثل عيسى فورا، وبعدها حاول عيسى أن ينتقد مسؤولين بالدولة بدون التعرض مباشرة للسيسي، لكن حتى تلك المناورة لم تنجح، فقد عبر السيسي نفسه قبل ذلك عن غضبه من انتقاد الحكومة في وسائل الإعلام، وهي سياسة تختلف عن سياسة مبارك الذي كان يترك وسائل الإعلام تهاجم الحكومة في محاولة لتنفيس غضب المصريين من تدهور الأوضاع في البلاد.
وقد أدت رؤية السيسي تلك إلى تواري إبراهيم عيسى عن الأنظار لفترة، قبل أن يعود ببرنامج يتحدث عن موضوعات تاريخية لا علاقة لها بالسياسة، ويتعاقد مع إحدى شركات الإنتاج الفني لبطولة فيلم “أرض النفاق”، كما حصل على إشادة من أوفير جندلمان، المتحدث باسم رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بعد أن وصف عيسى الفدائيين الفلسطينيين منفذي عملية “ميونيخ” عام 1972 بـ”الإرهابيين”. وأضاف جندلمان في تغريدة على حسابه بموقع تويتر “صح لسانك يا إبراهيم، قتل رياضيين عمل إرهابي مش بطولي”.
وكان فدائيون فلسطينيون قد احتجزوا لاعبين إسرائيليين مشاركين في دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في مدينة ميونيخ الألمانية في سبتمبر/أيلول 1972، وقتل خلال تحرير الرهائن 11 إسرائيليا وخمسة من الفدائيين الفلسطينيين وشرطي ألماني.
هناك أيضا الإعلامية منى الشاذلي، التي ذرفت الدموع حزنا على مبارك بعد خطابه الثاني في ميدان التحرير، لكنها كانت من أوائل من تركوا السياسة، فهي تقوم بتقديم برنامج منوعات منذ 2014 وحتى الآن. وأيضا “بثينة كامل” التي كانت من كبار الداعمين للثورة على مبارك والمجلس العسكري، لدرجة أنها فكرت في الترشح لانتخابات الرئاسة عام 2012، كما كانت عضوة في حزب الدستور، لكنها أيدت الانقلاب والسيسي، وقررت بعدها الابتعاد عن السياسة لتكتفي منذ 2016 ببرنامج اسمه “اعترافات ليلية”، وصرحت بأنها لن تمارس السياسة بعد ذلك، وأن مهمتها هي “تغيير العقول” من خلال برنامجها.
وقد شهد عام 2017 المزيد من التبرؤ من السياسة، إذ أعلن خالد يوسف اعتزاله العمل السياسي، رغم أنه عضو في مجلس النواب وتقع السياسة في صلب اهتماماته الأساسية، موضحا أنه سيعود إلى عمله الأصلي مخرجا للأفلام السينمائية ولن يعود للسياسة مجددا بعد أن تنتهي الدورة البرلمانية الحالية. وجاء ذلك الإعلان بعد أن تعرض للإيقاف أثناء سفره إلى الخارج العام الماضي، بتهمة حيازة دواء مخدر، وتحدثت تقارير إعلامية عن أن ما حدث مع يوسف “قرصة ودن” بعد حديثه في وسائل الإعلام عن قضية جزيرتي “تيران وصنافير” وتأكيد مصريتهما.
كما أعلن محمد أبو الغار رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي هو الآخر اعتزاله العمل السياسي، قائلا إنه لا يرى أي دور سياسي يمكنه القيام به الآن، بعد أن كان أحد الداعمين بقوة للانقلاب، وشارك حزبه في حكومة حازم الببلاوي أحد الأعضاء المؤسسين لحزب أبو الغار، والذي أصدر قرار فض اعتصام رابعة بجوار نائبه زياد بهاء الدين أحد أعضاء الحزب أيضا، فضلا عن مسؤولية تلك الحكومة عن اعتقال عشرات الآلاف من المصريين بتهم التظاهر بدون تصريح، كما اعترف أبو الغار بحدوث تزوير في نص دستور 2014 قبل عرضه للاستفتاء، لكنه قال إنه التزم الصمت حتى لا تتأثر عملية التصويت. كما أعلن المنتج محمد العدل اعتزال “العمل العام” بعد أن كان أحد زعماء اعتصام المثقفين في مكتب وزير الثقافة في عهد الإخوان.
وكان آخر المعتزلين العام الحالي الكاتب الصحفي “محمد الجارحي”، الذي أعلن اعتزاله الكتابة عن الشأن العام والسياسة في خطوة مفاجئة، للتفرغ لاستكمال بناء مستشفى “25 يناير” في محافظة الشرقية، بعد أن تعرضت المستشفى لصعوبات مالية في سبيل استكمال تمويل بنائها.
“موت السياسة” مصطلح عُرف عن عهد السيسي، الذي قضى على كافة أشكال السياسة في مصر التي يحكمها حكما عسكريا مباشر منذ نحو 4 سنوات مجردا من أي غطاء سياسي أو مدني مثلما كان عليه الحال طوال العهود السابقة، وعصف بكل الشخصيات التي من الممكن أن تشكل تهديدا له في الانتخابات الرئاسية القادمة، حتى أن السيسي وصف نفسه قبل أيام بأنه ليس سياسيا من الأصل، وهو تصريح انتقده المرشح الرئاسي السابق “عبد المنعم أبو الفتوح” في حواره مع الجزيرة مباشر، إذ تساءل “كيف يقول السيسي إنه غير سياسي رغم أن منصب الرئيس هو قمة العمل السياسي؟” وكان هذا أحد التصريحات التي أدت إلى اعتقال أبو الفتوح نفسه.
وقد وصف المحامي والحقوقي الراحل أحمد سيف الإسلام تحولات الساحة السياسية في مصر بعد الانقلاب عندما اعتبر أن فض اعتصام رابعة هو “إعلان لموت السياسة في مصر” مضيفا أن قيام نظام ما بعد الانقلاب بفض اعتصام ضخم بهذا الشكل يعني أنه لن يعبأ بأي قوى أخرى بعد ذلك ولن يحرج من فعل أي شيء آخر.
وتطبيقا لذلك يتبنى النظام منذ سنوات خطة ممنهجة لزيادة جرعة برامج الترفيه في وسائل الإعلام بأنواعها، خاصة المرئية منها، وتم إطلاق قناة “دي إم سي” خصيصا لذلك الغرض، وبالفعل تبث القناة عشرات البرامج التي لا علاقة لها بالسياسة من قريب أو بعيد، وتركز على استضافة الفنانين والرياضيين وبرامج المسابقات.
تم نشره بموقع الجزيرة مباشر بتاريخ 2/15/2018
http://mubasher.aljazeera.net/news/%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D8%B3%D8%B9%D8%AF-%D9%88%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A8%D8%B1%D8%A4-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B5%D8%B1