تأتي وفاة الفناة الراحلة شادية مناسبة للحديث عن ظاهرة الفنانين التائبين ومآلاتها النهائية، وكيف تفردت الفنانة شادية من بينهم جميعًا حتى وفاتها.
امتلأ الفضاء الإعلامي المصري بما يسمى ظاهرة الفنانين التائبين منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، عندما أعلنت الفنانة شادية اعتزالها، وبعدها بدأ عدد من الفنانين والفنانات في الإعلان عن اعتزالهم العمل الفني لأسباب دينية، وإبداء بعضهم الندم على ما قدموه خلال مسيرتهم الفنية، وارتبطت تلك الظاهرة لدى الفنانات بارتداء الحجاب.
لم يخل الأمر بالطبع من انتقادات لهؤلاء الفنانين واتهامات لهم بالرغبة في الحصول على الشهرة – رغم أنهم أعلنوا اعتزالهم وعدم اشتراكهم في أي عمل فني – وأنهم يبحثون عن أي شيء يحصلون به على الاهتمام الذي بدؤوا يفقدونه وأنهم في الأصل لم ينجحوا في الحصول على عقود لأعمال فنية جديدة وبالتالي أعلنوا اعتزالهم ليبدو الأمر وكأنه جاء منهم ومن صحوة ضمائرهم فقط.
على الجانب الآخر كان هناك احتفاء كبير من جانب التيارات الإسلامية بتلك الظاهرة وأصحابها، وأصبح بعضهم رمزًا لدى تلك التيارات، ووجدنا وسائل الإعلام الدينية التي تطلق على نفسها لقب «الإسلامية» تستضيف هؤلاء الفنانين للحديث عن تجربتهم في «التوبة» والعودة إلى الحق، وكيف عادوا إلى الله عز وجل، وكيف أنهم كانوا على ضلال، لدرجة أن الأمر تحول في بعض الأحيان إلى «بيزنس» تمثل في سفر بعض هؤلاء الفنانين مع بعثات الحج والعمرة لمرافقة المعتمرين والحجاج، وكأنهم بذلك سيحصلون على مميزات إضافية بمرافقتهم لهؤلاء الفنانين، واستغلت شركات السياحة الدينية ذلك وقامت بتصميم برامج معتمدة على تواجد «النجوم» المعتزلين في الرحلة وطرحتها بأسعار خيالية.
لكن اندلاع الثورة المصرية والسنوات التي تلتها كشف زيف تلك الظاهرة، بعد أن انضم معظم هؤلاء الفنانين «التائبين» إلى جوقة النظام، معلنين الحرب على الثورة، ومتهمين الثوار بالخيانة والعمالة، وظهر أحدهم ليستنكر ما سماها «الهتافات البذيئة» ضد مبارك في ميدان التحرير، وبكت أخرى على «كبيرنا محمد حسني مبارك» على حد قولها، وثالثة أصبحت مصدرًا للسخرية بعدما اشتكت من أن الثورة لم تجعلها تأكل البيتزا أو الكباب، واشتكت من أن نجل شقيقها البالغ من العمر عامين فقط يتألم من عدم تمكنه من تناول «الريش المشوية» التي أصبحت غير موجودة بسبب الثورة! وبالطبع لم تختلف مواقف هؤلاء من الانقلاب العسكري الذي أيدوه ودعموا كل مجازره، ووصفت فنانة تائبة السيسي بأنه هدية من الله، وشبهته أخرى بجمال عبد الناصر وأكدت بثقة أنه لا يكذب. فيما أكدت فنانة تائبة أخرى – وهي زوجة فنان تائب أيضًا – أن السيسي «يصنع المعجزات ولكن الناس لا ترى» وأعلنت تفويضها له، ولم تنس أن تقدم التحية لعصر المخلوع مبارك قائلة إن عصره لم يكن «بمثل الخراب الآن».
حتى على مستوى الأعمال الفنية، وجدنا نكوصًا مستمرًا من هؤلاء الفنانين عما كانوا قد أعلنوا توبتهم منه، فبدؤوا أولًا في أداء الأدوار في الأعمال الفنية الدينية أو التاريخية، ثم انتقلوا إلى الأعمال الفنية العادية التي كانوا يستنكرون ما يحدث فيها من قبل، وقامت العشرات من الفنانات التائبات بخلع الحجاب مرة أخرى، فيما تفتق ذهن إحدى الممثلات عن حيلة بائسة للجمع بين الشهرة الفنية وما تتصور أنه استجابة للفروض الدينية، فظهرت مرتدية شعرًا مستعارًا فوق شعرها الحقيقي أثناء أعمالها الفنية، وكأنها بذلك ما زالت متمسكة بنفس موقفها القديم.
وحدها الفنانة شادية التي احترمت قرار اعتزالها حتى النهاية ولم تتاجر به أو ترجع عنه أو تبتذله، ولم تتورط في تصريحات أو مواقف سياسية تخصم من رصيدها لدى جمهورها لأنها لم تكن تبتغي مكاسب من دنيتها، عكس معظم الفنانين التائبين الذين لم نر أثرًا لتوبتهم المزعومة تلك في مواقفهم السياسية التي لم تعرف التوبة. ورغم ذلك لم تتورع فنانة تائبة من رفيقات شادية عن الادعاء عليها بعد وفاتها أنها كانت تدعو للسيسي وتبارك خطواته، في خطوة عديمة الاحترام للفنانة الراحلة لأنها لن تستطيع الرد على ذلك الادعاء أو نفيه، وكأنه مطلوب انتزاع تأييد الجميع للزعيم الملهم طبيب الفلاسفة، حتى إن فشلوا في انتزاع ذلك التأييد منهم في حياتهم انتزعوه غصبًا بعد وفاتهم، وكأنهم لا يريدون أن يكون هناك مجرد شك في وجود بعض الأحرار ممن لا يشاركون في حفلات التطبيل والنفاق الجماعية احترامًا لأنفسهم وتاريخهم.