المادة “الملعونة” في الدساتير العربية
دائما ما يبدأ الرئيس في دول العالم الثالث في بدايات حكمه حديثا مكرّرا عن عدم رغبته في البقاء أكثر من فترتين رئاسيتين، ولا يملّ من التأكيد على زهده في المنصب، وأنه لم يكن ليتولى السلطة، لولا الحاجة الملحة التي تقتضيها “الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد”. ثم بمجرد أن تقترب الولاية الثانية من الانتهاء، يسارع هذا الحاكم أو ذاك بتمهيد الأجواء للقيام بتعديلات دستورية، تهدف إلى إتاحة الفرصة أمامه للبقاء على سدة الحكم عددا غير محدد من الفترات الرئاسية حتى يتوفاه الله، ويتم هذا التعديل دائما بحجة وجود “رغبة شعبية جارفة” تطالب الحاكم بضرورة البقاء، لكن الحقيقة أن الحاكم يكون قد أحكم قبضته على الدولة ومؤسساتها، وجعلها جميعا في خدمته، ويكون الاستفتاء في معظم الحالات إجراءً شكليا حتى يتم إخراج المشهد بصورة مقبولة.
وتعتبر دولنا العربية رائدة في هذا، فقد كانت الدساتير العربية بعد الاستقلال تنص على أن يظل الرئيس فترتين، وتتراوح مدة الواحدة ما بين أربع إلى سبع سنوات، إلا أن المادة الدستورية التي تنص على ذلك كانت دائما محل استهداف من الحكام العرب الذين قرروا تغييرها مهما كان الثمن، وكأنها تحوّلت إلى مادة “ملعونة”.
ففي مصر كان دستور عام 1971 ينص على عدم بقاء الرئيس أكثر من فترتين، إلا أن أنور السادات سارع إلى تعديل تلك المادة، بعد أن أوعز إلى أعضاء في البرلمان وقتها بالتقدم بطلب إجراء تعديلات في الدستور، وتضمنت هذه السماح للرئيس بالبقاء عددا غير محدود من الفترات، وإنشاء مجلس الشورى، وجعل الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، فيما تبدو كأنها “رشوة” قدمها السادات لمغازلة المشاعر الدينية لدى المصريين عموما والتيارات الإسلامية خصوصا. وبالفعل مرّر السادات التعديلات، لكنه لم يستفد منها بعد اغتياله، ليستفيد منها خليفته حسني مبارك الذي مكث خمس فترات رئاسية، كان ينوي أن يتبعها بالسادسة، وأن يستمر في الحكم “طالما في القلب نبض” وفقا لما قاله أمام مجلس الشعب عام 2010، لولا قيام ثورة يناير 2011، التي أدت إلى تعديل الدستور لينص على فترتين رئاسيتين حدا أقصى.
ما حدث في مصر تكرّر في تونس، فبعد وصوله إلى الحكم عبر انقلاب 7 نوفمبر 1987،
وعد الرئيس التونسي المخلوع، زين العابدين بن علي، بأنه “لا رئاسة مدى الحياة”، وعدل الدستور وقتها ليحدد عدد الدورات بثلاث دورات رئاسية أقصى حد، كل منها خمس سنوات. لكن حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الذي كان مسيطرا على البرلمان، أقر عام 2002 تعديلا دستوريا يسمح لبن علي بترشيح نفسه عددا غير محدود من الفترات، وهو ما مكّنه بالفعل من الترشح بعد ذلك مرتين، الأولى في 2004 والثانية في 2009، حتى هروبه من البلاد إثر الثورة التونسية في 2011.
وقد عرفت اليمن ظاهرة سياسية فريدة من نوعها عرفت باسم “تصفير العداد”، وهو مصطلح يستخدم عادة عند إعادة عداد السيارة للصفر، بعد أن تكون قد قطعت عشرات آلاف الأميال، وهو الأمر الذي طبقه الرئيس اليمني المخلوع، علي عبد الله صالح، في مجال السياسة. إذ على الرغم من أنه حكم البلاد 33 عاما، إلا أنه، في نظره، لم يتجاوز فترتين رئاسيتين!
ففي العام 1990 تحققت الوحدة اليمنية، ليصبح صالح (تولى رئاسة اليمن الشمالي عام 1978) رئيسا لمجلس الرئاسة اليمنية، لتشهد البلاد اضطرابات أربع سنوات، حتى أعيدت الوحدة، ليعلن صالح نفسه رئيسا لليمن الموحد، وليس رئيسا لمجلس الرئاسة كما كان. وفي العام 2001، أجريت تعديلات دستورية مدّدت فترة الرئاسة من خمس سنوات إلى سبع، واعتبرت أن الفترة الرئاسية لصالح التي بدأها عام 1999 الأولى له. وفي يوليو/ تموز 2005، أعلن صالح أنه لن يرشح نفسه فترة رئاسية أخرى في انتخابات عام 2006، وأعاد الخطاب نفسه مرات. وخرجت مظاهرات شعبية وحملات لجمع التوقيعات، ليعلن صالح بعدها قبول ما سمّاها “الضغوط الشعبية” لإعادة ترشيحه ليفوز بفترة رئاسية جديدة، كان من المفترض أن تكون “الثانية” والأخيرة له، وفقا لحسابات صالح نفسه، أي أن حكمه من المفترض أن ينتهي عام 2013. لكن رئيس الكتلة البرلمانية لحزب المؤتمر الشعبي (الحاكم) في يناير/ كانون الثاني 2011، قال إن حزبه يسعى إلى إعلان صالح رئيساً مدى الحياة، وإلغاء “العدّاد” نهائيا وليس تصفيره، وطرحت تعديلات دستورية نصت على إلغاء المادة 112 من الدستور التي تحدّد فترة الرئاسة بدورتين. لكن الثورة اليمنية (مثل المصرية والتونسية) قضت على أحلام صالح، ليضطر إلى التخلي عن الحكم في 2012. بعد أن اعتبرت فترة حكمه أطول فترة حكم لرئيس في اليمن، وثاني أطول فترة حكم من بين الحكام العرب الذين هم على قيد الحياة حاليا.
وقد لحقت الجزائر بقطار الدول السابقة، فقد ألغى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة المادة التي تحدد الفترات الرئاسية، ليفوز بولاية ثالثة انتهت عام 2014، وهو الذي فاز فيه بوتفليقة بولاية رابعة، لكنه عاد أخيرا وقام بتعديل الدستور مرة أخرى في فبراير/ شباط 2016، تضمن إعادة تحديد فترات الرئاسة باثنتين، لكن ذلك الأمر لن يطبق على بوتفليقة (بالطبع)، وإنما على الرئيس الذي سيليه.
المتأمل في هذه الظاهرة يجدها حصرا في دول العالم الثالث، وتحديدا النوع الأسوأ منها، فهناك دول تصنف من “العالم الثالث” إلا أنها تشهد انتخابات ديمقراطية، وتداولا للسلطة بشكل سلمي ومتكرّر، مثل السنغال ونيجيريا، لكن الدول الأسوأ (ومنها العربية) لم تعرف سوى تأبيد الحاكم حتى لو تلاعب بالدستور، وقد حدث هذا في دول أفريقية عديدة، مثل رواندا وبوروندي والكونغو وتشاد وجيبوتي والكاميرون وأوغندا وتوغو وزيمبابوي وأنغولا، وحتى في آسيا الوسطى، مثل طاجكستان وكازاخستان وأوزبكستان. لكن على الرغم من هذا، قاومت دول أخرى، ونجحت في هزيمة الحاكم وإجباره على عدم البقاء، وأسقطت التعديلات الدستورية المقترحة، لتظل المادة التي تحدّد فترات الرئاسة باقية، مثل بوركينا فاسو وزامبيا ومالاوي وبنين.
ها نحن نشهد الآن عودة الحكام إلى الأسلوب القديم نفسه في سعيهم إلى البقاء الأبدي في
السلطة، بتغيير المواد الدستورية التي تعيق استمرارهم في الحكم، ففي مصر، بدأ نظام عبد الفتاح السيسي زفة إعلامية، لتمهيد الطريق أمام تعديل الدستور لتمديد فترة الرئاسة إلى ست سنوات بدلا من أربع، والسماح له بالترشح عددا غير محدود من الفترات، وهو أمر سهل تمريره عبر برلمانه الذي يسبح بحمده ليل نهار، حتى إن أعضاء في البرلمان طالبوه بوضوح بالبقاء رئيسا إلى الأبد، على الرغم من أن الدستور نفسه يحظر تعديل تلك المادة أصلا، لكنهم كالعادة سيجدون مخرجا “قانونيا” يتيح لهم إخراج المشهد كما يريدون، بعد أن يقنعوا أنفسهم بأن مصر ستضيع من دون الرئيس “السوبر مان” الذي يحكمها حاليا، ووصل بها إلى مراحل غير مسبوقة من الانحدار والضياع.
وشهدت موريتانيا مهزلة كبرى، فقد واجه الرئيس محمد ولد عبد العزيز معارضة قوية من مجلس الشيوخ، فقرّر ببساطة طرح تعديلاتٍ دستورية لإلغاء المجلس نفسه! ونظم استفتاء صوريا لذلك الأمر، زعم فيه أن 85% من المواطنين موافقون على ذلك العبث، فيما رأت المعارضة أن الخطوة ما هي إلا بمثابة تمهيد للرئيس لكي يطرح تعديلاتٍ لاحقة، غرضها تغيير “المادة الملعونة” إياها، لتسمح له بالترشح لعدد غير محدود من الفترات، وهو ما يبدو أن موريتانيا مقبلة عليه، لتبدو مصر وموريتانيا متشابهتين في أنهما يحكمانهما رئيسان جاءا إلى السلطة عبر انقلاب عسكري، ويمضيان في تدمير السياسة في بلديهما، وتعزيز سلطتهما حتى يتمكّنا من البقاء، فهل ينجحان في ذلك؟