الأخلاقيات المهنية في صحيفة الأهرام المصرية
تتناول هذه الورقة حالة خاصة أثارت الكثير من الجدل بشأن مدى التزام صحيفة الأهرام بميثاق الشرف الصحفي المصري والمبادئ الأساسية التي نصت عليها المواثيق الدولية للصحافة، حيث تلقي الضوء على الأزمة التي حدثت بين صحيفتي “الأهرام” المصرية و”نيويورك تايمز” الأمريكية، بشأن ترجمة مقال نشر بالصحيفة الأمريكية تناول خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2014. كما يوثق ردود أفعال الصحيفتين حول الأزمة، إضافة إلى رد فعل وكالة أنباء الشرق الأوسط التي ترجمت التقرير، ورد فعل المؤسسات الإعلامية الأخرى، ويحلل مدى مهنية تناول الأهرام ووكالة أنباء الشرق الأوسط للقضية، مقترحا حلولا بديلة كان يمكن الأخذ بها. |
مقدمة
أثارت الحالة التي وصلت لها الأخلاقيات المهنية في الصحافة المصرية الكثير من الجدل خلال السنوات الماضية، ليس فقط بسبب الانتقادات الموجهة لها من قبل مؤسسات صحفية دولية، ولكن أيضا بسبب المشكلات التي تعتري عملية تطبيق مواثيق الشرف الصحفي والمعايير المهنية في البلاد، خاصة بعد أحداث الثالث من يوليو التي أطاح فيها الجيش بأول رئيس منتخب بشكل ديمقراطي في مصر.
ورغم أن ميثاق الشرف الصحفي المصري الصادر عن المجلس الأعلى للصحافة بتاريخ 26 مارس/آذار 1998 ينص على أنه “يجب على الصحفي الالتزام فيما ينشره بمقتضيات الشرف والأمانة والصدق بما يحفظ للمجتمع مثله وقيمه” (1)، إلا أن التقارير المحلية والدولية تشير إلى تراجع حاد في الأداء المهني للصحافة المصرية، حيث أكد المؤتمر العام الخامس لنقابة الصحفيين على غياب التعدد والتنوع وغلبة الصوت الواحد وتدخل الأجهزة الأمنية فى العمل الصحفي (2)، كما أشارت مريم أنور في دراستها عن “العوامل المؤثرة على التزام الصحفيين بتشريعات الصحافة وأخلاقيات المهنة” إلى أن نسبة كبيرة من الصحفيين لديهم إلمام محدود بالتشريعات التي تحكم العمل الصحفي (3).
كما تشير التقارير الدولية إلى وجود تراجع كبير في حرية الصحافة المصرية، حيث يصنف المؤشر العالمي لحرية الصحافة لعام 2016، مصر في المرتبة الـ 159 عالميا، من بين 180 دولة، وقد كانت في نهاية عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك تحتل المرتبة 127. وهو ما يعني المزيد من قمع الحريات وسيطرة الدولة على مجريات العمل الصحفي وبالتالي تراجع المهنية في التغطيات والتعامل مع الأحداث والإخلال بمواثيق الشرف الصحفي، وهو الأمر الذي خلق نوعا من الفجوة في المصداقية “Credibility Gap” بين الصحف وجمهورها (4).
وتنقسم الصحف الكبرى في مصر إلى قومية، أبرزها الأهرام والأخبار والجمهورية، وحزبية، مثل الأهالي والأحرار، ومستقلة، أبرزها المصري اليوم واليوم السابع والشروق والوطن، وقد اختارت الورقة الأهرام باعتبارها إحدى أعرق صحف البلاد لتسليط الضوء من خلالها على حالة الأخلاقيات المهنية في البيئة الصحفية المصرية.
وتتناول هذه الورقة حالة خاصة أثارت الكثير من الجدل بشأن مدى التزام صحيفة الأهرام بميثاق الشرف الصحفي المصري والمبادئ الأساسية التي نصت عليها المواثيق الدولية للصحافة، حيث تلقي الضوء على الأزمة التي حدثت بين صحيفتي “الأهرام” المصرية و”نيويورك تايمز” الأميركية، بشأن ترجمة مقال نشر بالصحيفة الأميركية تناول خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2014. كما يوثق ردود أفعال الصحيفتين حول الأزمة، إضافة إلى رد فعل وكالة أنباء الشرق الأوسط التي ترجمت التقرير، ورد فعل المؤسسات الإعلامية الأخرى، ويحلل مدى مهنية تناول الأهرام ووكالة أنباء الشرق الأوسط للقضية، مقترحا حلولا بديلة كان يمكن الأخذ بها.
الأهرام .. النشأة والتطور والسياسات
صدر العدد الأول من صحيفة الأهرام في 5 أغسطس/آب عام 1876 على يد “سليم تقلا” و”بشارة تقلا” في محافظة الإسكندرية، وكانت تصدر في البداية بصورة أسبوعية، واحتوت على مواد هامة مثل مقالات الإمام محمد عبده الإصلاحية، ومقالات “جمال الدين الأفغاني”، وغيرهما. ومنذ العام 1881 تحولت الصحيفة إلى الصدور بصورة يومية. وانتقلت عام 1900 إلى مقرها بالعاصمة المصرية القاهرة. وقد تولى مسؤولية الأهرام على مدار تاريخها عدد كبير من الصحفيين والكتاب المعروفين، من بينهم خليل مطران ومحمد حسنين هيكل وفكري أباظة وإحسان عبد القدوس. ونشرت مقالات لأهم المفكرين المصريين والعرب، مثل طه حسين وتوفيق الحكيم وزكى نجيب محمود وعبد الرحمن الشرقاوي وغيرهم، كما كان الأديب نجيب محفوظ ينشر فيها فصول رواياته قبل إصدارها في كتب.
وتطورت الأهرام على مدار السنوات لتصبح مؤسسة متكاملة، فأصدرت طبعات ومجلات وصحفا أخرى، إلى جانب مركز للدراسات والتدريب. وتحتوي إصدارات المؤسسة على الآتي: (الطبعة الدولية – الأهرام ويكلي – الأهرام إبدو – الأهرام الاقتصادي – الأهرام العربي – نصف الدنيا – الأهرام الرياضي – الأهرام المسائي – مجلة علاء الدين – مجلة السياسة الدولية – مجلة الديمقراطية – مجلة لغة العصر – مجلة البيت – وكالة الأهرام للصحافة – مجلة ديوان الأهرام – بوابة الحضارات). كما تضم المؤسسة عددا من المعاهد والمراكز البحثية مثل: (معهد الأهرام الإقليمي للصحافة – مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية).
وتعود ملكية مؤسسة الأهرام إلى الدولة، بعد أن أممها النظام المصري عام 1960 مع العديد من الصحف الأخرى، ومنذ ذلك الحين أصبحت الدولة – أو النظام السياسي المسيطر – هو المتحكم في تعيين قيادات الأهرام وعزلهم، وهو ما أدى إلى تحول الأهرام إلى ما يشبه الصحيفة الرسمية التي تعبر عن وجهة نظر النظام في القضايا الداخلية والخارجية.
وفي العام 1996 أصدر الرئيس السابق حسني مبارك القانون رقم 96 لتنظيم الصحافة، والذي نص على تشكيل المجلس الأعلى للصحافة، والذي قضى بأن يكون علي رأسه رئيس مجلس الشورى المصري، ويضم في عضويته رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير المؤسسات الصحفية القومية، وعدد من النقابيين وأساتذة الصحافة والمشتغلين بالقانون الذين يختارهم مجلس الشورى، وهو ما يعني أن الدولة تسيطر بشكل شبه كامل على قرارات المجلس.أيضا توضح هذه الخلفية كيف تري الدولة أن الإعلام ما هو إلا مجرد كيان دعائي يعكس رؤيتها ويردد خطابها ويحاول إقناع الجمهور به، ويكرس رؤية أحادية هي رؤية النظام الحاكم وحزبه، لتتحول تلك المنابر “القومية” لأبواق خاصة بالترويج للنظام.وقد أدى ذلك إلى تراجع دور الصحف ومن بينها الأهرام، خاصة خلال عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، حيث سعى رؤساء تحرير الصحيفة إلى إرضاء النظام الحاكم وتجاهل احتياجات الجمهور والقراء (5).
الأهرام .. المهنية ومواثيق الشرف الصحفي
وفقا للقاءات أجريت مع ثلاثة من الصحفيين العاملين في المؤسسة، فإن الأهرام لا تمتلك ميثاقا للشرف الصحفي أو دليلا للمعايير التحريرية أو أي شرح لسياستها التحريرية، وبحسب صحفيي الأهرام فإن محاولات جرت لصناعة مثل هذا الدليل لكنها لم تنجح ولم تؤد إلى نتيجة. لتصبح التوجيهات الشفهية لرؤساء ومديري التحرير، الوسيلة الوحيدة التي يتعرف بها المحرر على سياسة الصحيفة.
وقد أدى ارتباط الصحيفة العضوي بالنظام وتراجع الاهتمام بقضية المهنية ومواثيق الشرف الصحفي إلى وقوع الأهرام في العديد من ما يمكن اعتباره سقطات مهنية، ففي العام 1967 جاءت تغطية الصحيفة للعدوان الإسرائيلي على أربعة بلدان عربية من بينها مصر غير مهنية، حيث ادعت الصحيفة تحقيق القوات المصرية انتصارات واسعة على القوات الإسرائيلية في سيناء، وأكدت إسقاط قوات الدفاع الجوي لمئات الطائرات الإسرائيلية، وهو ما ثبت عدم صحته في وقت لاحق (6).
ومن المآزق المهنية التي تورطت فيها الصحيفة أيضا، قيامها بتحريف صورة للرئيس المصري السابق حسني مبارك مع مجموعة من الرؤساء خلال زيارة للولايات المتحدة، حيث وضعت الصحيفة مبارك في مقدمة الرؤساء خلال توجههم إلى مؤتمر صحفي بالبيت الأبيض، وهو ما بررته الصحيفة في ذلك الوقت بأنها “ًصورة تعبيرية”، وهو ما أثار موجة من النقد والسخرية ضدها (7).
وخلال ثورة يناير عام 2011 تبنت الصحيفة رأي النظام وهاجمت الثورة طوال الثمانية عشر يوما، بعد أن تجاهلت أخبار المظاهرات في الأيام الأولى، فقد صدر عدد الصحيفة يوم الـ 26 من يناير/كانون أول على سبيل المثال، وهو يحتوي على عنوان رئيسي يتحدث عن احتجاجات واسعة في لبنان (8). وبعد تنحي مبارك في الـ11 من فبراير/شباط، تحولت الصحيفة بصورة كاملة من الهجوم على الثورة إلى الاحتفاء بها، وصدر عدد الأهرام بعناوين “الشعب أسقط النظام” و”شباب مصر أجبر مبارك على الرحيل” (9).
لكنها عادت مرة أخرى بعد الثورة إلى التعبير عن النظام، الذي كان يمثله المجلس الأعلى للقوات المسلحة في ذلك الوقت والذي تسلم زمام الحكم من مبارك، واستمر الحال على ذلك مرورا بالرئيس المعزول محمد مرسي وحتى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي.
واتجهت الصحيفة بعد عزل الجيش للرئيس محمد مرسي لمهاجمة معارضي الحكم العسكري، وهو ما دفعها إلى ارتكاب عدد من الأخطاء المهنية، ففي يناير/كانون الأول من العام 2016 نشرت الصحيفة خبرا تحت عنوان: “مواطنون بالمنوفية يجبرون “متظاهر إخوانى” على ارتداء “قميص نوم” (10)، وأرفقت الخبر بصورة فاضحة، وقد تتبع نشطاء الصورة ووجدوا أنها منشورة في العام 2011 لشاب في مدينة العمرانية بمحافظة الجيزة المصرية وذلك خلال نزاع مع أهالي المدينة (11).
الأزمة بين صحيفتي “الأهرام” و”نيويورك تايمز”
انتشرت ظاهرة قيام وسائل إعلام مصرية بـ”تحريف” الترجمة الخاصة بتغطيات الإعلام الأجنبي والعالمي لما يحدث في مصر، عن طريق انتقاء بعض الكلمات وحذف كلمات أخرى أو تحريف مضمون المقالات والتقارير لإعطاء معنى معاكس تماما. وتم توثيق عشرات من تلك الحالات على مدار الأشهر الماضية، ففي أكتوبر/تشرين الأول 2014 على سبيل المثال، نشرت صحيفة الأهرام مقالا منسوبا إلى صحيفة “واشنطن تايمز” الأميركية، يصف في نسخته الأصلية الجيش المصري بأنه علماني، وموال للغرب، ويحارب الإسلام الراديكالي (12). لكن الترجمة العربية حذفت هذه الجملة، وأصبح عنوان المقال: “مصر مفتاح هزيمة التطرف… وشهدت عاماً كارثيّاً تحت حكم الإخوان” (13).
لكن نفس الشهر شهد أزمة كبيرة تورطت فيها الأهرام، بعدما قامت بتحريف ترجمة تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، التي انتبهت للتحريف وتحدثت عنه.
مواطن الخلل
نشرت الصحيفة المصرية في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2014، ترجمة لتقرير نشر في نظيرتها الأميركية قبل يومين من خطاب السيسي الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول عام 2014. وقد نشرته الأهرام في نسختها المطبوعة بعنوان “نيويورك تايمز: المصريون ينعمون بالاستقرار.. والسيسي حصن ضد الفوضى” (14) وفي نسختها الإلكترونية تحت عنوان “كاتب أمريكي: السيسي رجل دولة يحظى بالاحترام والتقدير” وفيه نسبت الصحيفة لكاتب التقرير قوله إن السيسي “أكد صورته أمام الرأي العام الدولي كرجل دولة يحظى بالاحترام والتقدير في المنطقة” وأنه “استطاع تغيير الطريقة التي يلقي بها الرؤساء الخطب في الأمم المتحدة، من خلال إنهاء خطابه، وهو يهتف تحيا مصر”. ونسبت الترجمة لكاتب التقرير أيضا قوله إن السيسي “لقي تصفيقا حارا من قادة العالم المجتمعين بعد هتافه تحيا مصر”، وأنه “استطاع أن يمحو صورة كانت في أذهان البعض أن ما حدث في مصر في يونيو 2013 انقلاب وليست ثورة”. فيما أصبح حكمه “يعتمد على قوة شخصيته وشعبيته الجارفة بشكل غير مسبوق، من خلال الدعم الذي يلقاه في الدولة المصرية ومن قبل حلفائه، وهو الأمر الذي عزز من سلطته وتوج كل ما قام به منذ اندلاع ثورة 30 يونيو”. وأضافت الترجمة أيضا إن كاتب التقرير في الصحيفة الأميركية وصف المشهد في الأمم المتحدة أثناء الخطاب بأنه “فريد” وأن جميع الدبلوماسيين كانوا في حالة من الصمت والاستمتاع خلال كلمة السيسي. بينما أكدت أن كاتب التقرير قال إن السيسي اتخذ إجراءات لم يجرؤ أحد من رؤساء مصر السابقين على اتخاذها مثل رفع الدعم عن أسعار الوقود والتي كانت تعد أمرا غير قابل للمس بدون أي معارضة أو احتجاجات تذكر من الرأي العام أو الشارع المصري (15).
لكن الحقيقة أن التقرير المنشور في صحيفة “نيويورك تايمز” (16) لم يتحدث عن تلك النقاط إلا بوصفها صادرة عن معلقين مصريين في إطار تمجيد السيسي في الدوائر السياسية والإعلامية في مصر. في الوقت الذي وجه فيه الكاتب انتقادات للسيسي قائلا إنه: واجه المعارضة الإسلامية له من خلال عمليات إطلاق النار الجماعية والاعتقالات.
على سبيل المثال، قال كاتب التقرير “يقول المعلقون المصريون إن السيسي لم يعد ذلك الجنرال السابق الذي أطاح بأول رئيس منتخب ديمقراطيا في مصر، حيث تم الاعتراف بالسيسي أخيرا من قبل المجتمع الدولي كرجل دولة محترم، وزعيم إقليمي في المنطقة. حتى إن السيسي “غير الطريقة التي يلقي بها الرؤساء خطاباتهم في الأمم المتحدة!” كما ادعى مقدم البرامج عمرو أديب، والذي كان يظهر حينها مقطعا من خطاب السيسي ينهيه بـ”تحيا مصر” شعار حملته الانتخابية القومي. وبينما ينهى السيسي خطابه بهذا الشعار، رأى المشاهدون المصريون ذلك وسط تصفيق صاخب من قادة العالم المجتمعين”. شيء عبقري!” كما قال أديب، معتبرا تجمع القادة حفل عرس. وتابع “كان عبد الفتاح السيسي عريس الأمم المتحدة، وكانت مصر هي العروس”. ما كشفه الحدث، أكثر بكثير من أي تغير لموقف السيسي في الخارج، كان هو محاولة حلفاء السيسي ومؤيديه بناء تلك الهالة حول شخصيته، التي تعزز من سلطته، أكثر كثيرا مما كان لحسني مبارك، سلفه الذي حكم مصر طويلا. مالم يستطع المشاهدون في مصر رؤيته خلال انعقاد الجمعية العامة هو أن تقريباً كل الدبلوماسيين الحاضرين شاهدوا في صمت متعجب حاشية السيسي الصغيرة تصفق رداً على هتافه. لكن تحية الإعلام المصري كانت مستديمة وبالإجماع مضفية بعداً درامياً على احتكار السلطة في عهد السيسي بشكل يقول المحللون إنه لم يحدث في هذه البلاد منذ عهد محمد علي باشا مؤسس الدولة المصرية الحديثة في أوائل القرن التاسع عشر”.
أما عنوان التقرير الذي قدمته الأهرام باعتباره رأي الكاتب الأميركي، فقد ذكر في التقرير الأصلي على أنه صادر من “جمال عبد الجواد” الباحث المصري في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، المؤيد للسيسي، الذي نقل عنه كاتب التقرير إن السيسي لم يعد ينظر إليه على أنه “القائد العسكري الذي قاد انقلابا وأصبح رئيسا” لأنه قدم نفسه باعتباره “رجل دولة مسؤول ولديه إدراك ورؤية لبلاده وللمنطقة”.
وفيما يتعلق بالآراء الواردة في التقرير فقد تعرضت للتحريف أيضا، ففي الوقت الذي قال فيه الدكتور خالد فهمي أستاذ التاريخ للصحيفة إن الدولة المصرية لم تشهد في تاريخها تحكما وسيطرة بهذا الشكل الموجود في عهد السيسي، وأن القادم ربما يكون أشد، جاء التقرير المترجم ليقول “ما يحدث الآن يعد سابقة في التاريخ المصري الحديث وكل ذلك مجرد بداية لظاهرة جديدة في حكم مصر.”
وقد كان من الممكن أن يمر هذا التحريف مرور الكرام، كغيره من عمليات التحريف التي تقوم بها الصحف المصرية في ترجمة المواد من نظيراتها الأجنبية، لكن صحيفة “نيويورك تايمز” نشرت تقريرا في 15 أكتوبر/تشرين الأول توثق فيه الفارق الكبير بين المقال المنشور وترجمته العربية المنشورة في الأهرام. وأوردت مقتطفات من المقال الذي نُشر على الإنترنت يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقارنتها بما نقلته الأهرام في اليوم التالي (17). وسخرت الصحيفة في تعليقها من تحريف الأهرام لتقريرها، قائلة إنه لا توجد صحافة بمصر تنشر شيئا سلبيا عن السيسي، ما دامت “الأهرام”، الصحيفة الرسمية بالبلاد، هي من تترجم ما ينشر عنه.
كيف تعاملت مؤسسة الأهرام مع الأزمة؟
تعاملت الأهرام مع الأزمة بنفس الأسلوب الذي مارسته عند تحريف المقال الأصلي. فقد نشرت الصحيفة بيانين مختلفين باللغتين الإنجليزية والعربية يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول. ففي بيانها المنشور باللغة الإنجليزية (18)، قدمت الصحيفة اعتذارا للنيويورك تايمز، وقالت إنها حصلت على النص المترجم من “وكالة أنباء الشرق الأوسط” وهي الوكالة الرسمية للأخبار في مصر، وأكدت أن الصحف المصرية الأخرى نشرت نفس الترجمة الخاطئة.لكن الصحيفة عادت وأكدت أن ذلك ليس عذرا، وأنها كان يجب أن تقوم بمراجعة النص المترجم من الوكالة والتحقق من صحته قبل نشره، وأنها اتخذت قرارا بعدم نشر أي مادة من الوكالة دون تدقيق ومراجعة. مؤكدة أن الصحافة المصرية ككل تعاني من انخفاض المعايير الأخلاقية والمهنية، مما يجعل من إصلاح الوضع “معركة شاقة”. إلا أن بيان الأهرام في نسختها العربية تهرب من أية مسؤولية، محملا وكالة أنباء الشرق الأوسط المسئولية بالكامل (19). ليس هذا فحسب، بل حرضت في بيانها على مراسل نيويورك تايمز بالقاهرة، قائلة إنه “يرفض المسار السياسي في مصر بعد ثورة 30 يونيو ويدافع بحماس شديد عن الجماعة الإرهابية ويروج دائما لفكرة أن هناك قمعا للحريات وعدم احترام حقوق الإنسان في البلاد ويشكك في الإرادة الشعبية التي اقتلعت الإخوان من السلطة”. وانتقد البيان الصحيفة الأميركية بصورة غير مباشرة، عندما نص على أن “السلطة السياسية في مصر تثق في وعى الشعب وعدم انسياقه وراء التقارير الصحفية التي تخدم سياسات بعينها ومواقف ليست فوق مستوى الشبهات”.
وقد أثار اختلاف رد فعل الأهرام بين النسختين العربية والإنجليزية انتباه صحيفة “نيويورك تايمز”. التي علقت عليه قائلة: إن النسخة العربية من بيان الأهرام كانت “أقل لطفا وحملت انتقادات حادة لتغطية نيويورك تايمز”.
وفي نفس اليوم نشر “أحمد السيد النجار” رئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام تدوينة على حسابه الشخصي على موقع فيسبوك، احتوت على حديث مرتبك عن الأزمة ما بين الإقرار بالخطأ والتنصل منه بل والهجوم على “نيويورك تايمز” (20). حيث قال النجار في البداية إن وكالة أنباء الشرق الأوسط هي المسؤولة عن الخبر المنشور “جملة وتفصيلا” طالما تم إسناد الخبر إليها عند نشره. لكنه أكد أن القسم الخارجي بالأهرام “الذي يبلغ تعداد العاملين فيه قدر جريدة بأكملها” حسب قوله “ما كان له أن يعتمد على ترجمة الوكالة أصلا حتى لو تدخلت اعتبارات الوقت في الموضوع”. مضيفا أنه طالب فعلا بتوضيح الأمر، إلا أنه عاد ووصف الصحيفة الأميركية ب”التنطع” قائلا إنها استغلت الأمر لافتعال أزمة مع “عملاق بقيمة الأهرام”. واختتم النجار التدوينة بفقرة جمع فيها بين المتناقضات السابقة، إذ قال “في هذه الواقعة الخطأ عند آخرين (الوكالة) وليس الأهرام، لكن في آليات العمل لا يجوز الاعتماد مطلقا في الترجمة إلا على القسم الخارجي الشديد التميز أصلا”. وقد نشرت الأهرام رد رئيس مجلس إدارتها على صفحاتها وموقعها الإلكتروني (21).
يمكن قياس ردود الأفعال على الأزمة من خلال متابعة التعليقات على تدوينة أحمد السيد النجار رئيس مجلس إدارة الأهرام، فمن بين 56 تعليقا نجد واحدا فقط يشيد بالأهرام وبما كتبه رئيس مجلس الإدارة، أما باقي التعليقات فقد حفلت بالهجوم القاسي على رد فعل المؤسسة وما قامت به، كما احتوت أيضا على نقد عنيف بسبب عدم اعتذار النجار وهجومه على نيويورك تايمز ووصفها بـ”التنطع” ودفاعه عن الأهرام ووصفها بـ”العملاق”. واللافت أن الانتقادات لم تقتصر على تيار سياسي واحد، بل شملت أيضا مؤيدين للنظام دعوا في تعليقهم إلى إقالة النجار.
رد فعل وكالة أنباء الشرق الأوسط
ردت وكالة أنباء الشرق الأوسط بدورها في بيان رسمي على السجال الدائر بين الأهرام ونيويورك تايمز، إذ أصدرت بيانا قالت فيه إنها تابعت “بانزعاج شديد” السجال المتبادل بين الصحيفتين، مبدية “أسفها واستنكارها لمحاولات الزج باسمها في هذا الموضوع”. وحاولت الوكالة في بيانها أن تنأى بنفسها عن تحمل المسؤولية، وطالبت “جميع مشتركيها وعلى رأسهم الأهرام بمراعاة أبسط القواعد المهنية بوضع اسم الوكالة على التقارير والأخبار الصادرة عنها، والتي يتم استخدامها من جانب المشتركين بدلا من توجيه الاتهامات جزافا إليها”.
لكن بيان الوكالة حمل أبعادا سياسية، عندما أشار إلى أن ما تبثه من مواد صحفية “يرتبط ارتباطا وثيقا بالثوابت الوطنية والمصالح القومية، في وقت يتعرض فيه وطننا العربي من المحيط إلى الخليج لمؤامرة خسيسة تقوم على تفتيته إلى دويلات متحاربة على أسس دينية و طائفية و مذهبية و عرقية” وفي هذا تلميح غير مباشر إلى قيامها بتعديل المواد الصحفية التي تنتجها وفقا لما تسميه “الثوابت الوطنية والمصالح القومية” أي أنها يمكن فعلا أن تقوم بحذف أجزاء من التقارير الصحفية التي تقوم بترجمتها إذا كانت تحتوي على انتقاد لنظام السيسي.
وقد نشرت صحيفة الأهرام ذلك البيان، وردت عليه قائلة إن الوكالة طالبت جميع المؤسسات بوضع اسم الوكالة على الأخبار المنقولة عنها، دون أن تفسر سبب عدم دقة الترجمة المنقولة عن صحيفة نيويورك تايمز (22). فيما نشرته صحف ومواقع إخبارية أخرى كما هو دون تعليق منها، مثل “المصري اليوم” (23) و”البوابة نيوز” (24) وغيرهما.
ردود أفعال إعلامية
انتشرت أنباء الأزمة في وسائل الإعلام العربية والعالمية، التي تناولتها بالنقد والتحليل كما فعلت صحيفة “العربي الجديد” اللندنية التي اعتبرت الأزمة واحدة من أبرز الأزمات و”الكوارث” الصحفية في مصر خلال العام 2014 (25). وهو الأمر نفسه الذي انتبه إليه موقع “هافنغتون بوست” الأميركي، الذي نشر مقالاً بعنوان “تعتذر في النسخة الإنجليزية، ولا تفعل في نسختها العربية” (26). ووصف موقع “نون بوست” الحدث بـ “الفضيحة” التي تعرضت لها الأهرام من قبل نيويورك تايمز، وأكدت أن الصحيفة المصرية قامت ب”الكذب” (27). فيما اعتبر الكاتب “محمود أبو سالم” في مقاله بموقع “مصر العربية” أن وكالة أنباء الشرق الأوسط المسؤول الأول عن الخطأ، وأن خطأ الأهرام أنها عند نشر الخبر في نسختها المطبوعة لم تتبع ما هو معهود من وضع مصدر الخبر المنشور، فكل ما ينشر عن الوكالة لابد أن يكتب في بدايته أو نهايته “أ ش أ”، واصفا ذلك الخطأ بأنه “أوقع الصحيفة في شر أعمالها” لأن مراسل نيويورك تايمز قام بالاطلاع على نسخة الأهرام المطبوعة ليجد فيها التقرير وهو غير منسوب إلى أي مصدر، وبالتالي خرج بمقال يتحدث عن تحريف الأهرام لتقريره (28). كما أدان الكاتب “أحمد مجدي يوسف” في مقاله بموقع “ساسة بوست” صحيفة الأهرام وما قامت به من تضليل، مؤكدا أن الصحيفة “لها سجلّ حافل يمتد لأكثر من 50 عامًا يتعلّق بالمحاباة للنُظم الحاكمة على حساب الشعارات الرنّانة التي ذكرتها ولا تلبث تذكرها في كل مناسبة” واصفا ما فعلته بأنه “فعل فاضح” (29).
الخلاصة والتوصيات
ترصد هذه الورقة الأزمة التي حدثت بين صحيفتي “الأهرام” المصرية و”نيويورك تايمز” الأميركية، حول ترجمة مقال نشر بالصحيفة الأميركية تناول خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2014. كما يوثق ردود أفعال الصحيفتين حول الأزمة، إضافة إلى رد فعل وكالة أنباء الشرق الأوسط ورد فعل المؤسسات الإعلامية الأخرى، ويحلل الأخطاء التي وقعت فيها الأهرام ووكالة أنباء الشرق الأوسط مقترحا حلولا بديلة كان يمكن الأخذ بها.
فبينما ينص ميثاق الشرف الصحفي المصري على ضرورة التزام الصحفي “بتحري الدقة في توثيق المعلومات، ونسبة الأقوال والأفعال إلى مصادر معلومة كما كان ذلك متاحا أو ممكنا طبقا للأصول المهنية السليمة التي تراعى حسن النية، وينص على أن “كل خطأ في نشر المعلومات يلتزم ناشره بتصحيحه فور اضطلاعه على الحقيقة وحق الرد والتصحيح مكفول لكل من يتناولهم الصحفي” (30). نجد أن صحيفة الأهرام لم تلتزم بقواعد هذا الميثاق في تغطيتها لتقرير صحيفة النيويورك تايمز الذي تناول زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للأمم المتحدة، فقد أخطأت صحيفة الأهرام في نشر الترجمة المحرَفة دون تدقيق، وأخطأت مرة ثانية عندما لم تنسب الموضوع إلى وكالة أنباء الشرق الأوسط، كما أخطأت مرة ثالثة في تأخر رد فعلها حول الموضوع، وأخطأت مرة رابعة في التعامل مع الموقف برمته. وكان يجب على صحيفة الأهرام أن تسارع إلى تقديم الاعتذار بشكل واضح وصريح إلى قرائها أولا ثم إلى صحيفة نيويورك تايمز ثانيا، وكان يمكن أن يعتبر اعتذار النسخة الإنجليزية من الصحيفة جيدا وكافيا لولا أن المؤسسة لجأت إلى أسلوب غير مهني وهو نشر بيان باللغة العربية مخالفا لنظيره باللغة الإنجليزية. كما أخطأت الصحيفة ورئيس مجلس إدارتها في اللجوء إلى نظرية المؤامرة في ردهم، عبر التلميح إلى وجود نية مبيتة من نيويورك تايمز لافتعال أزمة، وهو أمر مستبعد نظرا لمكانة نيويورك تايمز العالمية وعدم حاجتها إلى افتعال أي ازمات.
أما بالنسبة لوكالة أنباء الشرق الأوسط، فهي صاحبة الخطأ الأصلي الذي ورط معها صحفا مصرية أخرى وليس فقط الأهرام، كما أخطأت في إنكار مسؤوليتها عن المادة المنشورة، وخلا بيانها الذي أصدرته من أي إشارة إلى مضمون الموضوع المثار، واكتفى بترديد عبارات وشعارات عامة. وتجاهل أصل المشكلة، وهي: هل ترجمتها لمقال النيويورك تايمز التي اعتمدت عليها الأهرام ونشرتها كانت خاطئة أم صحيحة؟ خاصة أن صحفا أخرى نقلت التقرير عن الوكالة ونشرته.
ويعتقد الباحث أنه حتى لو كان الموضوع الأصلي الذي نشرته الأهرام منقولا من وكالة أنباء الشرق الأوسط، فإن صحيفة بحجمها وتاريخها لم يكن ينبغي لها أن تنشر ترجمة موضوع من مصدر آخر، فالصحيفة لديها بالفعل قسم خارجي يحتوي على عشرات الصحفيين، وفقا لما قاله رئيس مجلس الإدارة نفسه، وكان عليها على الأقل أن تتأكد من صحة الترجمة عبر المقارنة بينها وبين الموضوع الأصلي، إلا أن الاستسهال أدى إلى قيامها بنشر الترجمة دون مراجعة أو تدقيق. وكان يكفي الصحيفة أن تقدم اعتذارا مع التأكيد على خطأها في نقل الترجمة دون تدقيق، مع التنويه إلى مسؤولية وكالة أنباء الشرق الأوسط عن المادة الأصلية، والإشارة إلى أن صحفا مصرية أخرى قد نشرت نفس الموضوع منقولا عن الوكالة، مثل صحيفة “أخبار اليوم” (31) و”اليوم السابع” وغيرهما.
وفي كل الأحوال كان اعتماد الأهرام على قسم الترجمة الخاصة بها سيعفيها من الدخول في أي أزمات مهنية، هذا إذا كانت بالفعل ترغب في نقل الحقيقة بدقة وأمانة ومهنية. لكن حتى لو اعتمدت الصحيفة على طاقمها فإنها لم تكن لتقرر ترجمة التقرير الأصلي ونشره كما هو، نظرا لاحتوائه على هجوم شديد على نظام السيسي الذي تدين له الأهرام بالولاء، وبالتالي فإن الأهرام كانت ستقع في نفس الإشكالية التي تورطت بها، فهي إما ستتجاهل التقرير بالكامل أو ستقوم بترجمته بطريقة مجتزئة وغير مهنية. ولن يتم حل تلك الإشكالية إلا بفك الارتباط بين الأهرام والنظام السياسي في مصر، وهو أمر لن يحدث قطعا في ظل النظام الحالي الذي يسيطر على كافة وسائل الإعلام حتى الحزبية والخاصة منها ولا يرغب في أي حرية في مجال الإعلام، وهو أمر غير مسبوق فعلا، وفق تعبير أستاذ التاريخ خالد فهمي الذي صرح به في تقرير نيويورك تايمز “الأصلي”.
وفي النهاية يوصي الباحث بضرورة تفعيل مواثيق العمل الصحفي المكتوبة بالفعل في الوطن العربي بشكل عام وفي كل بلد عربي على حده، كما يوصي بكتابة ميثاق خاص لكل صحيفة يتم تعميمه على العاملين فيها ومراقبة مدى الالتزام به من جانب الصحفيين أولا ثم إدارة الصحيفة، وبعدهم نقابة الصحفيين في كل بلد، وذلك بهدف الارتقاء بالعمل الصحفي وحماية المتلقي من عمليات التضليل التي يمكن أن يتعرض لها.
نشر هذا المقال على موقع مجلة الصحافة بتاريخ 25 يوليو، 2017