كيف تصنع رمزاً: باسم يوسف نموذجاً
ينسب مصطلح “صناعة الثقافة” إلى كل من “تيودور أدورنو” و”ماكس هوركهايمر” وهما من رواد الجيل الأول من مدرسة فرانكفورت التي انشغلت بوضع الإنسان في المجتمع الرأسمالي الحديث. ويرمز المصطلح إلى التحولات التي شهدتها الثقافة في المجتمعات الحديثة، والتي أصبحت لا تمثل إلا مصالح تجارية ورأسمالية تخدم المنظومة السائدة وتهدف إلى صناعة الربح ليس إلا، وبالتالي صارت الثقافة (بما فيها وسائل الإعلام الجماهيرية) جزءا من عملية القمع الشمولية في المجتمع الرأسمالي الحديث.
أما عن عملية الإنتاج نفسها، فيشبهها “هوركهايمر وأدورنو” في كتابهما “جدل التنوير” بخط إنتاج مصانع السيارات، حيث يتم العمل على آلاف السيارات في وقت واحد بنظام التجميع، وأصبح المخرج السينمائي على سبيل المثال ليس فنانا منفردا بل بمنزلة المدير الذي يهتم بتنسيق جميع مهام العمل.
وقد ارتبطت مقولة “أدورنو وهوركهايمر” برؤيتهما لدور الفن الجاد، والذي ارتبط بدوره بمجمل رؤية مدرسة فرانكفورت ونقدها الجذري للوضع القائم، ولأشكال الهيمنة التي عرفتها المجتمعات الغربية المعاصرة. فالفن في نظرهم هو البعد الوحيد الذي يمكن من خلاله تجاوز السيطرة التي تهدده من كل جانب، فهو أداة تحرر وانعتاق.
يقول “هوركهايمر” في مقالة الفن والثقافة الجماهيرية، إن الفن الأصيل هو “فن قاوم الجراحة التجميلية التي تجريها المنظومة الاقتصادية السائدة التي تصب البشر جميعا في نموذج واحد”. وشرعية الفن الأصيل إنما تكمن في قدرته على الاحتفاظ بقدر من الاستقلال عن الوضع القائم، فهو -بخلاف الثقافة الجماهيرية التي تعبر عن عالم الرأسمالية المسلع-ينطوي على عنصر مقاومة متأصلة فيه. ويمثل تحديا للوضع القائم.
أما أدورنو فرأى في كتاب النظرية الجمالية أن الاحتجاج أو شكل المعارضة الآخر ضد النظام الحالي للعالم الحديث يتجسد في الأعمال الفنية المستقلة، أي التي ينتجها أدباء وفنانون لهم رؤية فردية، بحيث يحل هذا الفن محل الطبقات العاملة باعتباره وسيلة معارضة ضد المجتمع. ولا يقوم هذا الفن بوظيفته التحررية إلا إذا استطاع تجاوز ما هو قائم وتمكن من تحقيق استقلاله الذاتي عن طريق رفض إدماجه بالواقع القائم أو اختزاله إلى انعكاس للواقع.
لكن الفن الجاد تعرض –وفقا لهوركهايمر وأدورنو-إلى خلل تمثل في احتلال القيم التجارية المادية مكان القيم الفنية الجمالية ضمن سياق النظام الرأسمالي الاحتكاري الذي حول كل شيء إلى سلع وبضائع تخضع لمنطق السوق. وحتى الفن أصبح بدوره سلعة تخضع لذلك المنطق. وأصبح من بين الوسائل التي يتم توظيفها للتحكم في الفن وإدماجه في الوضع القائم وتوجيهه لخدمة الأيدولوجيا السائدة هو النشر الجماهيري للأعمال الفنية والأدبية والموسيقية وتحويلها إلى سلع تباع وتشترى في الأسواق بشكل مبتذل، وأصبح يغلب عليها الطابع التجاري والنفعي الذي يبعد الفن عن وظيفته الحقيقية.
كما انتقد أدورنو وهوركهايمر إخضاع الفن للمؤسسات الاقتصادية والسياسية والثقافية وتوظيفه أيدولوجيا للحفاظ على الوضع القائم وإعادة إنتاجه بكيفية تحقق استمرارية هذا الوضع الذي يكرس السيطرة. وتصبح الثقافة منتجا استهلاكيا يعيد إنتاج الواقع من دون مساءلته أو الدفع باتّجاه تغييره.
وقد تعرضت مقولة صناعة الثقافة إلى الانتقاد من الباحثين والمفكرين، وركزت بعض هذه الانتقادات على أن العصر الحالي به إمكانيات واحتمالات كثيرة لبروز أشخاص يقومون بإنتاج ثقافي باستخدام طرق وأدوات ومعدات رخيصة الثمن، بالإضافة إلى بروز مؤسسات صغيرة تهدف إلى توفير التسلية لمجموعات محددة بأذواق غريبة وبعيدة عن تيار الثقافة الجماهيرية. خاصة بعد ظهور شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، حيث أصبح الخروج على المنظومة السائدة وتحديها ممكنا باستخدام التكنولوجيا لأغراض خاصة. وبالفعل رأينا نماذج لأشخاص برزوا عبر تقديم أعمال فردية، مثل الذين يقومون بتصوير مقاطع فيديو ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي للحديث عن الأوضاع السائدة بصورة ناقدة أو ساخرة.
لكن في هذا البحث سنرى كيف أن ظاهرة المذيع المصري “باسم يوسف” تحولت من تحدي للوضع القائم من خارج المنظومة الإعلامية والثقافية السائدة إلى التماهي الكامل مع المنظومة والاندماج معها، وكيف استطاعت المنظومة الثقافية التابعة للنظام الذي يحكم مصر أن تستغل هذه الظاهرة لتحقيق أهدافها ثم تخلصت منه في النهاية.
يتابع هذا البحث ظاهرة باسم يوسف، منذ ظهوره في مقاطع فيديو على موقع “يوتيوب” عام 2011 وحتى الانتهاء من تقديم برنامجه على قناة “إم بي سي مصر” عام 2014، وعلاقته بالمنظومة الإعلامية السائدة، التي كان ناقدا لها في البداية قبل أن يصبح جزءا منها.
تم نشر هذه الدراسة بتاريخ 1 أبريل، 2017 على المعهد المصري للدراسات