إعلامالعربي الجديدمصرمقالات العربي الجديد

جمهورية مصر التلفزيونية

كان الخبر السار أن الرئيس الغامبي، يحيى جامع، خسر الانتخابات الرئاسية لصالح مرشح المعارضة، آداما بارو، وبدا وكأن غامبيا ستعرف، أخيراً، نهاية سعيدة بعد 22 عاما من حكم جامع. ذلك أن الأخير كان قد قاد انقلاباً عسكرياً كلاسيكياً من الذي تعرفه جمهوريات الموز منذ 22 عاماً، ثم حفلت سنوات حكمه بعديد من ممارسات ديكتاتورية واعتقالات وعمليات إخفاء قسري وقتل خارج إطار القانون، وكذا القضاء على الحياة السياسية، كما امتلأت بعجائب وغرائب ومهازل عديدة تليق بعسكري منقلب، من نوعية ادعائه بأنه توصل إلى علاجٍ لمرض الإيدز والربو والعقم وأمراض أخرى بعبقريته الفذّة!
على الرغم من ذلك، وجدت تعليقات عديدة من الجمهور العربي على نتائج الانتخابات تشيد بالرجل، وتخلع عليه صفاتٍ لم يجرؤ أحد في العالم على إطلاقها عليه، مع تعليقاتٍ عديدة عن المؤامرة الغربية في إسقاط جامع، وعدم سماحها بأن يحكم البلاد مثل هذا الشخص الرائع! وسبب تلك التعليقات أن المذكور كان قد أعلن بلاده عام 2015 “دولة إسلامية” تحكم بالشريعة، واتخذ إجراءات تحت هذه اللافتة، من قبيل محاربة الإلحاد وإلزام الموظفات الحكوميات بارتداء الحجاب، وإطلاق لقب “نصير الدين” على نفسه، والحديث المستمر عن تديّنه وورعه وتقواه.
هكذا اعتبر معلقون عرب الرجل يحكم بالإسلام، على الرغم من سجله المليء بالانتهاكات، ومن العبارات الكوميدية العديدة التي قالها تحت لافتة الشريعة، مثل قوله إن رئاسته وحكمه “في يد الله، وإن الله وحده الذي يمكنه أن ينزعها منه”، كما قال، لاحقاً، إنه سيبقى في الحكم “مليار عام”. ولم ينس طبعا أن يضيف كلمة “إن شاء الله”، تماشيا مع هوية غامبيا “الإسلامية” الجديدة.
بعد ذلك كله، يقول معلقون إن الغرب لن يرضى بأن يُحكم بلد بالإسلام، حتى لا تصبح

نموذجاً. وفاتهم أن غامبيا قد أصبحت نموذجا بالفعل، ولكن في الديكتاتورية وهزلية الحكم وغرائبية القرارات على طريقة كوريا الشمالية. والمؤسف أكثر أن تكون تلك التعليقات متناقضةً تماماً، قالها الأشخاص أنفسهم تجاه الممارسات أنفسها من حكام آخرين، لكن الفارق أنهم لم يرفعوا راية الشريعة، فما الذي يفرق إعلان جامع عن اكتشافه علاجا لمرض الإيدز مثلاً عما فعله عبد الفتاح السيسي قبل عامين، وأشبعه هؤلاء الناس سخريةً؟
مارس اللجوء إلى لافتة الشريعة حاكم آخر، هو رئيس وزراء ماليزيا، نجيب عبد الرازق، فقد التفت بسرعةٍ إلى الشريعة، ورفعها في كل خطبه الانتخابية، حيث أعلن دعمه لتطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، وحاول إذكاء النعرات الطائفية والعرقية في بلاده، مستثيرا المسلمين المنتمين إلى عرق الملايو لحشدهم ضد الأقلية الصينية، متعهداً بخوض معركةٍ حتى النهاية، من أجل “الملايو والإسلام”. كما اتبع سياسةً حادّةً تجاه ميانمار، مطالبا بوقف اضطهاد أقلية الروهينغا المسلمة. ودعا إلى تدخل المنظمات الدولية لوقف ذلك الاضطهاد، واستدعى سفير ميانمار للاحتجاج.
لا تهم الرجل شريعة ولا يحزنون، فهو متهم بالفساد وسوء الإدارة، وتلقي أموال بطريقةٍ غير مشروعة، واختلاس مئات ملايين الدولارات. وعندما أحسّ بأنه قد يخسر الانتخابات المقبلة، سارع إلى ذلك الخطاب الذي من المؤكد أنه سيطرب سامعيه، ويصدّقونه، وينسون كل الاتهامات بحقه. أما عن سياسته الكلامية تجاه قضية الروهينغا فتهدف إلى إعطاء صورةٍ عن نفسه أنه يحمي المسلمين في البلاد الأخرى، وليس فقط في بلاده.
أما في عالمنا العربي فحدث ولا حرج، فقد عرفنا تلك المقايضة بين لافتة الشريعة والاستبداد، عندما عدّل الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، الدستور، ليسمح بتوليه الرئاسة عدداً غير محدود من الفترات (حتى آخر نفس)، لكنه، لكي يمرّر تلك التعديلات، وضع مادة تفيد بأن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وهكذا مرّر السادات التعديلات، لكنه لم يستفد منها شيئاً، بسبب اغتياله، ليحل محله نائبه حسني مبارك الذي أذاق مصر الويلات على مدار 30 عاما بسبب لعبة لافتة الشريعة التي مارسها السادات. وبعد خلع مبارك غير مأسوف عليه، وجدنا تياراتٍ إسلامية، للأسف، تقوم بالممارسات نفسها بصورة فجة، مثل الإصرار الغريب لحملة محمد مرسي الانتخابية، في ذلك الوقت، على وصفه “المرشح الإسلامي الوحيد”، وكأنهم كانوا يمتلكون الحق في منح صفة “الإسلامية” لمن يريدون وحجبها عن من يشاؤون، لينتهي حكم “الرئيس الإسلامي الوحيد”، بعد أن خدعه السيسي وأوهمه أنه “إسلامي” مثله، وأنه “صوّام قوّام” بتعبير زوجة نائب مرشد الإخوان، خيرت الشاطر، نقلا عن الأخير.
نموذج بائس آخر هو السودان الذي بدأ “تحكيم الشريعة” بحربٍ أهلية أدت إلى انفصال

الجنوب، لكن الحكام “الإسلاميين” الذين يحكمون البلاد منذ 27 عاماً، بعد أن جاءوا بانقلاب عسكري، حاولوا إيهام الشعب أن ذلك في مصلحتهم. ويتمسّك النظام الحالي “الإسلامي” بعبارة “الذي زرعنا غير الله يقلعنا”، وهو ما قاله يحيى جامع بالضبط. وتشبه كذلك جملة تشبه قول عبد الفتاح السيسي “اللي يقدر على ربنا يقدر علينا”. ثم يعاير النظام هناك (في غامبيا) الشعب بأنهم “أفضل من الصومال”، وهي تشبه أيضا تخويف نظام السيسي للشعب المصري بأنهم “أحسن من سورية والعراق”. وظهر الرئيس السوداني، عمر البشير، قبل أيام ليدعو إلى إلغاء قرار وزارة التربية والتعليم السودانية إيقاف عقوبة الجلد في المدارس، معتبرا ذلك “تقليداً أعمى للغرب”، معتبرا أن إلغاء الجلد ينمّي في التلاميذ “الحرية المفرطة”، كما وصف مجانية التعليم بـ “الشعار الكاذب”، بالإضافة إلى آلاف المهازل الأخرى التي يدركها جيدا شعب السودان، ولا يتسع المجال لذكرها هنا.
لم يحصل شعب غامبيا، للأسف، على النهاية السعيدة التي يستحقها حتى الآن، بعد أن أبى الرئيس المهزوم، يحيى جامع، إلا أن يستمر في مهازله، ورفض الاعتراف بنتائج الانتخابات، وصمم على أنه الفائز، لتذهب البلاد إلى أزمةٍ سياسيةٍ مفتوحةٍ بفضل “نصير الدين” الذي جعل بلاده أضحوكةً بين بلاد العالم.
آن للشعوب العربية والإسلامية أن تدرك أنه ليس باللافتات تتقدّم الأوطان، وأن حكامنا الذين يرفع بعضهم راية الشريعة إنما يديرون “جمهوريات موز”، لا تختلف عن مثيلاتها في جميع أنحاء العالم.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى