العالمالعربي الجديدسياسةمقالات العربي الجديد

فوز ترامب و”حقيقة المعركة”

تنوعت ردود أفعال العالم العربي والإسلامي على فوز رجل الأعمال، دونالد ترامب، في انتخابات الرئاسة الأميركية، ووجدت هذه الردود صدىً في تفاعل العرب على شبكات التواصل الاجتماعي ومقالات الكتاب والمحللين في الصحف والمواقع الإلكترونية، وجاءت لتكشف عن جوانب متعدّدة من المشكلات التي يعاني منها العرب، في طريقة تفكيرهم حيال التحدّيات التي يواجهونها ونظرتهم إلى قضايا العالم.
تعامل فريق من هؤلاء مع الأمر بصبيانيةٍ واضحة، على طريقة “ألم نقل لكم”، مستغلين أنهم، في فترة، توقعوا فوز ترامب، ولم تكن تلك التوقعات حينها تستند إلى أي منطق، أو معلومات موثقة، فجميع التوقعات واستطلاعات الرأي والتحليلات تقريبا كانت تصب في صالح فوز هيلاري كلينتون، ومازال الخبراء عاجزين عن فهم سبب فوز ترامب، وبالتالي، كان هؤلاء يقامرون بتوقعهم حينذاك من أجل جذب الانتباه والظهور بمظهر المختلفين دائما، على طريقة “خالف تعرف”، وقد امتزجت تلك الصبيانية باستهانةٍ واضحةٍ من هؤلاء بالنتائج الكارثية التي ستعود على المنطقة العربية والعالم الإسلامي جرّاء فوز هذا الرجل العنصري الذي تتواتر الأنباء عن استعانته بأشد الأشخاص كراهيةً للعرب والمسلمين، وأكثرهم مساندة لإسرائيل وطغاة العرب في إدارته الجديدة، ورأينا كيف يتحدّث بعضهم بفرح طفولي ساذج عن اقتراب نهاية العالم بفوز ترامب، وكأنه يعيش في كوكب آخر.
قرّر فريق ثان، ببساطةٍ مدهشة، أنه لا فرق بين كلينتون وترامب، وأن الاثنين متشابهان في كل شيء، وأنه إذا كان ترامب سيؤذي العرب بصورةٍ مباشرة وعاجلة، فإن كلينتون ستفعل الشيء نفسه، ولكن بنعومةٍ وعلى مدى أطول، وبطرق غير مباشرة، مع لوم المهتمين بالانتخابات الأميركية ونتائجها، وكأن العرب وصلوا إلى مرحلةٍ من القوة تسمح لهم بالاستقلالية والاستغناء عن الاستعانة بالأميركيين. وهو تصور مغيب تماماً عن الواقع، فمن الطبيعي جداً أن يتابع العرب، بل والعالم أجمع، الانتخابات في أقوى بلد، والقوة العظمى الوحيدة في العالم، كما أن هناك اختلافات واضحة للغاية بين المرشحين، فيما يتعلق ببعض القضايا التي تهم العرب والمسلمين.
فترامب، مثلاً، لم يترك قضية تهم العرب، إلا وانحاز فيها إلى الجانب الخطأ، فهو لا يهتم

إطلاقا ببشار الأسد، ويرى ضرورة محاربة “داعش” فقط، كما أبدى إعجابا واضحاً أكثر من مرة بالرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ما يعني أن السوريين سيعانون بشدة من الرجل الذي ينحاز إلى جلاديهم، ويساندهم في جرائمهم ومذابحهم ضدهم. عكس كلينتون التي، وإن كانت لن تنحاز بالطبع إلى الثورة السورية بصورة مباشرة، لكنها على الأقل أيّدت إقامة منطقة حظر للطيران شمال سورية، وهو ما كان يمكن أن يعطي دفعةً كبيرة للسوريين وللمعارضة السورية لتقوية موقفها، بدلاً من ترامب الذي لا يوجد فرق تقريبا بينه وبين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
وفي مصر أيضا، فإن ترامب وعبد الفتاح السيسي لم يتوقفا عن التغزّل في بعضهما البعض، ولم يتوقف الإعلام المصري عن التعبير عن فرحته الهيستيرية بفوز ترامب في الانتخابات، وسب كل من يدعم هيلاري كلينتون، لأنهم يعلمون أن ترامب سيكون مفيداً جدا لهم، عكس كلينتون التي انتقدت السيسي مراتٍ، وأثارت غضب أنصار السيسي وأذرعه الإعلامية، إلى درجة أنهم لفقوا لها مقاطع كاذبة، ادّعوا أنها تذكر، في مذكراتها، أنها تقف وراء تأسيس تنظيم داعش! في إشارةٍ إلى حجم المرارة التي يشعرون بها منها، ومن إدارة أوباما التي أصرت على رحيل حسني مبارك في أثناء ثورة يناير.
تجتمع هاتان القضيتان الأساسيتان مع مواقف ترامب من القضايا الداخلية الأميركية، خصوصاً وعوده بحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، وترحيل المهاجرين، ومساندة إسرائيل بصورة مطلقة في عدوانها على الشعب الفلسطيني، لتجعل هناك فوارق واضحة وضوح الشمس بين المرشحين.
تجاوز الفريق الثالث والأكثر انتشارا اعتبار الاثنين متشابهين إلى فرح حقيقي وسرور كبير راوده لفوز ترامب، بحجة أن وجود ترامب على سدة الرئاسة الأميركية إنما يمثل وجه أميركا “الحقيقي”، وسيجعل المعركة “واضحة” وجذريةً بيننا وبينهم، وأنه آن الأوان أن تكفّ الولايات المتحدة عن الخداع، وأن تتوقف عن المراوغة، وأن تكشف عن سياستها بدون تزييف أو تجميل. وصاحبت هذا التصور فرحة مماثلة من منتمين إلى التيارات الإسلامية كارهين للديمقراطية، كأنهم يقولون “ها قد رأيتم أن الديمقراطية جاءت بشخصٍ مثل ترامب رئيسا لأقوى دولة، فلا تعوّلوا عليها كثيراً”.
والحقيقة أن هذا التصوّر يعاني من مشكلاتٍ فادحة، فهو يتعامل مع الأمر كأننا جاهزون بالفعل لخوض تلك المعركة التي يدقّون طبولها، بينما نحن، في حقيقة الأمر، أعجز وأضعف من أن

نتعامل مع أي نوعٍ من المعارك، سواء كانت صفرية جذرية أو مستترة غير مباشرة، أو كما قال الإعلامي زين العابدين توفيق “نحن لا قبل لنا بأي عدو. لو عطست ذبابةٌ فينا لأهلكتنا”.
هل يستطيع أحدٌ من هذا الفريق أن يخبرنا ماذا فعلنا مع معركةٍ “حقيقية وجذرية ومفصلية… إلخ” سابقة حدثت في عهد قريب، هو عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، الذي احتل بلداً عربياً (العراق) وآخر إسلاميا (أفغانستان)، ودعم إسرائيل بصورة مطلقة في حربين ضد لبنان وغزة، وأعلنها حرباً صليبيةً صريحة، وكان مقتنعا أن “يأجوج ومأجوج” انبعثا في الشرق الأوسط للقضاء على الغرب المسيحي! ماذا أفادتنا تلك المعركة الواضحة التي يحنّون إليها ويطلبونها؟ لقد هزمنا كالعادة، ولم نستطع أن نفعل شيئاً تجاه ذلك الاعتداء، وها هو العراق يدفع ثمن الكارثة التي حلت به عام 2003، وها هو بوش يجلس سعيداً آمناً من عقاب هؤلاء السادة عشاق المعارك الصفرية على الإنترنت!
لا أعرف من أين جاء هؤلاء بهذا التقدير المبالغ فيه للذات، وكيف يفكّرون بمثل تلك السطحية التي يريدون بها تجاوز تفاصيل الواقع، وغالباً لن يخرج حديثهم من غرف نومهم، وستقتصر مساهمتهم في “المعركة” على التنبيه بأننا مقبلون على معركةٍ، وسيبقون داخل حساباتهم الشخصية، لا يغادرونها إذا وصلت المعركة إلى باب بيتهم.
الأسوأ أن أي محاولاتٍ لترويض ترامب لن تكون لصالح العرب والمسلمين في الأغلب، إذ إن أميركا، في نهاية الأمر، بلد مؤسسات وهناك فصل حقيقي بين السلطات، وهو ما سوف يحدّ من سلطته، لكن الأمر سيقتصر على كبح جماحه على قضايا الداخل الأميركي، فيما سيتركون ترامب “يمرح” خارجياً لتعويض أي إخفاق أو تراجع عن وعوده الانتخابية التي سيجد أنها صعبة التطبيق، وسيحاول اصطناع أي أزماتٍ خارجيةٍ، لتكون “كبش فداء” يرمّم صورته، ويحشد الجماهير وراءه فيها. وعندها، لن يجد أفضل ولا أسهل منا ليوجه إلينا الصفعات كما يشاء. وليهنأ أصحاب نظرية “حقيقة المعركة” ووضوحها وصفريتها بجهادهم العظيم، عندما يحين ذلك الوقت.

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى