“النهضة” التونسية… نجاح أم فشل؟
كثر الحديث عما يمكن استنباطه من دروس التجربة التونسية عقب ثورتها، خصوصاً تجربة الوفاق الوطني التي قادتها حركة النهضة، وتنازلت بموجبها عن بعض المكتسبات الانتخابية في مقابل إقرار الدستور، واستكمال مرحلة الانتقال الديمقراطي من دون مشكلات.
عاد، أخيراً، الحديث عن تجربة حركة النهضة، بمناسبة فوز حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات البرلمانية، وتشكيله الحكومة للمرة الثانية خمس سنوات. لكن الحديث، هذه المرة، جاء بصورة هجوميةٍ وانتقاديةٍ عنيفة. قال هؤلاء المنتقدون إن حركة النهضة، في النهاية، لم تحقق هدفاً أكثر من مجرد “البقاء على قيد الحياة”، وأن هذا الأمر لا يصحّ أن يصبح هدفاً للحركات والأحزاب السياسية، بل يجب أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحكم والنجاح والاستمرار فيه، وهو ما لم يتحقّق، عكس ما حققه نظراؤهم في المغرب، وقبلهم في تركيا، على يد حزبي “العدالة والتنمية” في البلدين.
وينتقد آخرون من المنتمين إلى الحركات الإسلامية في مصر ما يعتبرونه تنازلاتٍ قدّمتها الحركة، فيما يتعلق بمكاسب كانت من حقها، بالإضافة إلى تقديمها رؤى مختلفة عمّا اعتادوه من الحركات التي توصف “إسلامية”، وهو ما جعل بعضهم يشكّك في “إسلامية” الشيخ راشد الغنوشي ورفقائه في حركة النهضة، وتطوّر الأمر لدى بعض المتطرفين إلى التشكيك في إسلامهم نفسه.
للوهلة الأولى، قد تبدو بعض هذه الانتقادات منطقيةً، فالحركة لم تصل إلى السلطة، ولم تعلن معركةً صفريةً مع الدولة، كما فعل “الإخوان” في مصر عقب عزل مرسي، فلا هي طالت قوة السلطة، ولا حازت شرف مقاومة الطغيان والاستبداد، بل اختارت حلاً وسطاً أفقدها كلا الأمرين.
هذه نظرةٌ قاصرةٌ وخاطئةٌ تماماً، بل هي مجرّد مزايداتٍ ومناكفاتٍ سخيفة، لا محل لها من الإعراب، فتهمة “البقاء على قيد الحياة” كانت هدفاً مهماً للغاية، بل ومن الصعب الوصول إليه، عقب موجة الثورة المضادة في دول الربيع العربي، والتي توّجت بالانقلاب العسكري في
مصر، وهي موجةٌ كادت أن تقضي على ثورة تونس، لولا حكمة قياديي “النهضة” التي جعلتهم يتفادون هذا المصير الأسود، فكيف نسمي الحفاظ على حياة عشرات الآلاف من البشر “فشلاً”، وهل المطلوب إعلان “الجهاد المقدس” ضد التيارات السياسية الأخرى، وضد الدولة، حتى يرضى هؤلاء المنتقدون؟
أصبح معروفاً أن الثورات المضادة أنفقت مليارات الدولارات، واشترت أحزاباً سياسية، وصحفا وقنوات فضائية، وأنشأت مراكز أبحاث وكيانات، وأطلقت حملات سياسية، ودعمت احتجاجات واضطرابات، وحرّضت الجيوش على الانقلاب على التجربة الديمقراطية. وبعد ذلك كله، ها هي تفشل في وأد الربيع العربي، وإطفاء جذوة الثورة.
ليس هذا الكلام مجرد خواطر متحمسة، أو كلمات متعاطفة، تحتوي من الأمنيات أكثر من الحقائق والوقائع، فالرئيس التونسي السابق والمناضل البارز، المنصف المرزوقي، كشف، مرّات، عن محاولات للانقلاب على التجربة الديمقراطية في تونس، مؤكدا إحباط محاولة انقلاب عام 2013 عندما كان في السلطة آنذاك، عقب إطاحة الرئيس محمد مرسي بفترة قصيرة. وقال إن ما حدث في مصر كان يخطط أن يكون له توابع في تونس، لكن هذا الأمر لم يتم، وتجنبت تونس مصير مصر وليبيا وسورية واليمن.
وعن الوقت الحاضر، أكد المرزوقي أننا في حالة أشبه بـ “التعادل”، لأن الثورات المضادة فشلت في تحقيق أي إنجازاتٍ تذكر على الصعيد الاقتصادي، على الرغم من أنها قدمت نفسها، في البداية، باعتبارها المنقذ للشعوب التي عانت من الاضطرابات المصاحبة للثورات، وأرادت الاستقرار بأي ثمن، لكن حتى هذا لم يتحقق.
وها هي مصر تعاني من أزمات اقتصادية غير مسبوقة، وتدهوراً في الأحوال المعيشية، وها هو النظام الحالي في تونس لم ينجح في تنفيذ وعوده، بل وانشقّ الحزب الحاكم إلى فريقين يتصارعان مع بعضهما، لأن اتحاد هذين الفريقين في السابق لم يكن على أرضيةٍ متماسكةٍ، بل كان لمجرد مواجهة الإسلاميين. لكن أما وقد حل الإسلاميون في المرتبة الثانية في الانتخابات، فقد التفتوا لمواجهة بعضهم، ليتفتت الحزب الحاكم، وتصبح “النهضة” صاحبة المركز الأول في عدد المقاعد في مجلس النواب، وهو ما يتيح لها الرقابة الفعالة على عمل الحكومة، بل والمزايدة عليها، في أحيان كثيرة، إن أرادت ذلك.
وقد كانت “النهضة” من الذكاء، بحيث لم تهرول إلى تشكيل الحكومة، بصفتها صاحبة أكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، ولم تشارك في السلطة التنفيذية إلا بقدرٍ محدودٍ ومحسوب، حتى لا تتحمّل تكلفة أي فشل أو تأخر في إنجاز التقدّم المنشود، لأن المشكلات المتراكمة والموروثة من حقبة الاستبداد سيستغرق حلها أعواماً عديدة، عكس ما رأيناه، للأسف، من “إخوان” مصر الذين تصدّوا لمسؤوليةٍ ضخمةٍ، لم يكونوا على قدر تحملها، بل ووصلت بهم الجرأة إلى أنهم وعدوا المصريين بأنهم سيحلون مشكلاتهم المزمنة (الخبز والوقود والنظافة والمرور والأمن) خلال 100 يوم فقط!
لعبت “النهضة” بذكاء، ولم تترك ثغرةً يمكن أن تؤدي إلى إجهاض التجربة، إلا وتعاملت معها وأحبطتها، وجعلت خيارات الثورة المضادّة محدودة، وهو ما يذكّرنا بذكاء الأتراك الذين نجحوا في دفع خصومهم إلى محاولة تنفيذ انقلابٍ خرج بهذا الشكل الخشن والدموي، وفشل، في النهاية، لأنه لم يكن لهم أي ظهير شعبي، وهو ما سيكون عليه الحال في تونس، إن حدثت محاولةٌ شبيهة لا قدّر الله، لأن التوافق بين القوى السياسية هناك نجح في رفع تكلفة أي انقلابٍ محتمل، وهو نجاحٌ، بحد ذاته، لم نره في مصر التي شهدت واحداً من أسهل الانقلابات العسكرية في التاريخ، وبظهير شعبيٍّ يقدر بالملايين، أياً كان رأينا في أسباب وخلفيات خروجهم إلى الشارع، أما تبرير “الإخوان” ذلك الفشل بوجود مؤامرةٍ عليهم، فهو من أنواع السذاجة، لأن المؤامرات بديهية في عالم السياسة، ولن تختفي من الوجود، لكن الفارق يكمن فيمن يستطيع التغلب على المؤامرات، أو يستسلم لها، ويتباكى على عجزه.