لم توثق جريمة في التاريخ مثلما حدث مع مذبحة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، في الرابع عشر من أغسطس عام ألفين وثلاثة عشر، بالإضافة إلى المذابح الأخرى السابقة (الحرس الجمهوري- المنصة- سيدي جابر- رمسيس الأولى) واللاحقة (رمسيس الثانية- عربة الترحيلات- 6 أكتوبر- 25 يناير.. إلخ)، وحتى الموازية، التي حدثت في نفس يوم الفض، مثل مجازر مصطفى محمود ومنطقة الألف مسكن في القاهرة والجيزة، ومسجد علي بن أبي طالب بالإسكندرية، وعشرات غيرهما في المحافظات.
صور ومقاطع فيديو، شهادات حية وضحايا معروفين بالأسماء والقوائم الكاملة، كلها أدلة تسجل ما حدث بالتفصيل. ومع ذلك، تبقى المحاسبة بعيدة عن مرتكبي المجزرة، رغم مرور 3 أعوام كاملة عليها. رغم أنها نظرياً تعتبر من أسهل الملفات التي يمكن تحقيق النجاح فيها، نظراً لقوة الأدلة وحصولها على اعتراف بصحتها من منظمات دولية.
قد تكون هناك عوامل سياسية وراء ذلك، مثل عدم رغبة الدول الكبرى في إدانة السيسي وإغضاب حلفائه في الخليج، وهو ما يعيق تحقيق العدالة، لكن نظرة مدققة لوقائع ما جرى في الملف الحقوقي لمناهضة الانقلاب، يكشف عن تقصير ونقص واضح في كفاءة وقدرة القائمين على تلك الملفات، بل وكذبهم في أحيان كثيرة وتبشيرهم باقتراب محاكمة السيسي بالمخالفة للحقيقة، وهي مبشرات لم تختلف كثيراً عن جملة “الانقلاب يترنح” التي كان يقولها قادة الحراك المعارض للانقلاب لرفع معنويات أنصارهم خلافاً للواقع.
على المستوى الداخلي، انحاز القضاء المصري والنيابة العامة إلى السلطة، وإذا بقضاء مصر يحاكم المعتصمين الضحايا أنفسهم، بدلاً من محاكمة قتلتهم، وكانت قد أحالت النيابة العامة عدداً كبيراً منهم إلى محكمة الجنايات قبل ثلاثة أيام فقط من الذكرى الثانية للفض، حتى لا يتم إطلاق سراحهم لتجاوزهم مدة الحبس الاحتياطي القانونية.
أما على المستوى الخارجي، فقد تكررت الوعود من قادة الحراك المعارض للانقلاب باقتراب محاكمة مسؤولي النظام على المجزرة، لكن شيئاً لم يتحقق حتى الآن، رغم صدور تقارير تدين نظام السيسي من منظمات دولية، أبرزها منظمة العفو الدولية، ومنظمة “هيومن رايتس ووتش” التي أصدرت تقريراً اعتبر” رابعة” أكبر مذبحة في تاريخ مصر المعاصر، وغيرهما.
كانت بداية تلك المبشرات الزائفة بالحديث عن محاكمة السيسي أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأعلن حزب الحرية والعدالة والتحالف الوطني لدعم الشرعية في مصر عن قبول المحكمة الجنائية الدولية النظر في دعوى تتهم رموز نظام ما بعد الانقلاب بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، لكن كل تلك الجهود ذهبت سدى ورفضت المحكمة الطلب لسبب بسيط، وهو أن مصر ليست عضواً في نظام المحكمة، وبالتالي لا تستطيع المحكمة نظر أي قضية متعلقة بها. لكن القائمين على القضية دعوا إلى عدم التسرع، مؤكدين أن هناك فرصة لاستئناف القرار، لكن تلك التأكيدات ذهبت أدراج الرياح مع عدم تحقيق أي تقدم في هذا الملف.
بعد ذلك الرفض بشهر واحد، ظهر أعضاء في تحالف دعم الشرعية بمؤتمر صحفي موسع، غلبت عليه الأجواء الاحتفالية، وكأن السيسي وأركان نظامه قد حوكموا فعلاً، وإذا بالمستشار وليد شرابي يعلن “قبول” المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان نظر دعوى تطالب بمحاكمة السيسي، كان ذلك في يونيو/حزيران 2014، معتبراً أن ذلك “تغير نوعي” فيما يتعلق بمحاكمة قادة الانقلاب، ليأتي رد المحكمة الأفريقية مطابقاً لنظيرتها الدولية: وهي أنها لا يمكن أن تنظر في أي دعاوى خاصة بمصر، لأن الأخيرة لم تصادق على البروتوكول المتعلق بتأسيس المحكمة. وقال أمين عام سجل المحكمة، روبرت إينو “أيدينا مكتوفة”، مشيراً إلى أن المحكمة تلقت 3 دعاوى من مصريين، ولكنها لم تتمكن من التعامل معها.
السيد وليد شرابي نفسه كان قد ظهر قبل ذلك في يناير 2014 على قناة الجزيرة، زعم فيه أن السيسي دفع 20 مليون جنيه إسترليني لمحامي اسمه “داود خير الله” ليتولى الدفاع عنه في القضايا الدولية المرفوعة ضده، وأن الأخير أوصاه بإعلان الإخوان جماعة إرهابية! وأن هذه النصيحة وردت في تقرير كان على مكتب السيسي نفسه! لكن السيسي لم يحاكم أصلاً أمام أي محاكم دولية، وكل ما حدث هو الإعلان كل فترة عن “قبول” إحدى المحاكم النظر في دعوى ضد السيسي دون أي إجراءات أخرى، أي أن المحامي حصل على هذا المبلغ فقط من أجل أن ينصح السيسي بإعلان الإخوان جماعة إرهابية! يا لها من فكرة عبقرية لم تدر بخلد أحد لتستحق هذا المبلغ!
بعد ذلك انتقلت “المبشرات” إلى بريطانيا، مع الإعلان عن أن المحكمة العليا البريطانية قد أصدرت أمراً قضائياً مفاده أن أعضاء الحكومة المصرية لا يملكون حصانة من المقاضاة في بريطانيا، وأنه من الممكن التحقيق مع المسؤولين المصريين لمعرفة هل هم متورطون في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ونقل موقع “الجزيرة نت” وقتها تصريحاً لـ أحمد عامر، عضو التحالف الوطني لدعم الشرعية في لندن، قال فيه إن هذا القرار “سيمكن الشعب المصري من أن يسترد حقوقه، مؤكداً أنه لا يجري الحديث عن أي استثناءات” على حد قوله، لكن الأيام تمر ويأتي السيسي إلى بريطانيا ويعود مرة أخرى دون أي مشاكل، رغم حديث تحالف دعم الشرعية عن أن السيسي مهدد بالاعتقال حال وصوله.
جاء قرار المحكمة البريطانية تزامناً مع دعوى رفعها محامون ضد السيسي، بعد ساعات من وصوله إلى باريس في زيارة رسمية، متهمين إياه بالمسؤولية عن “جرائم تعذيب وحشية” لكنها لم تنجح هي الأخرى.
أما العام الحالي فقد شهد هو الآخر محاولات للتبشير باقتراب محاكمة السيسي، مع الحديث عن “قبول” المحكمة العليا الفرنسية دعوى قضائية ضد الفتاح السيسي، تتهمه بارتكاب جرائم تعذيب ممنهج ومعاملة تحط من الكرامة الآدمية ضد معارضيه السياسيين. حتى أن السياسي المصري أيمن نور، قد نشر تغريدة قال إنها “معلومات” تفيد بأن المحكمة الجنائية الدولية ستقبل هذا العام نظر دعوى ضد السيسي، تتصل بارتكاب جرائم ضد الإنسانية..
وها نحن في الذكرى الثالثة من المجزرة والأوضاع هادئة تماماً، ولم يتم تحقيق أي نجاح ملموس، حتى الآن، ما عدا إلغاء زيارة السيسي إلى جنوب إفريقيا العام الماضي، خوفاً من احتمال ملاحقته، بعد تحريك منظمات حقوقية هناك دعاوى قضائية تطالب باعتقاله فور وصوله.
عدا ذلك، استطاع نظام السيسي الحصول على اعتراف بشرعيته من حكومات معظم دول العالم، خاصة الكبرى منها، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإسبانيا وفرنسا والصين وروسيا واليونان والفاتيكان، ودول أخرى زارها السيسي خلال العامين الماضيين منذ توليه منصب الرئيس.
يقول قادة الحراك المعارض للانقلاب في الخارج، إنه لا توجد إرادة سياسية دولية لمحاسبة قادة الانقلاب على جريمة الفض، لكن الحقيقة أنه كانت هناك فرصة للتصديق على البروتوكول الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية عام 2013 (عهد مرسي)، وهو ما كان يمكن أن يتسبب في قبول المحكمة لدعوى محاكمة السيسي والبدء في إجراءات محاكمته بالفعل، لولا أن مجلس الشورى ذا الأغلبية الإخوانية حينها رفض التوقيع، معللاً ذلك بأن التوقيع فيه “إهانة للقضاء المصري” لأنه “يجرنا للمحاكمات خارج مصر” وفقاً لتصريحات عز الدين الكومي، وكيل لجنة حقوق الإنسان بالمجلس حينذاك، الذي قال إن “مجلس الشورى يخشى من الوقوع فى محظور لجوء الآخرين بشكل مستمر للمحاكمات خارج مصر، ولا بد من وضع تلك المحاذير أمامنا عند التصديق عليها ووضع صيغة ترضى الجميع”، معتبراً أن المحكمة “لا تزال مسيسة”.
وهكذا ضاعت فرصة محاكمة السيسي؛ بسبب ضيق الأفق وانعدام الكفاءة لدى متصدري مشهد معارضة الانقلاب. ليأتي “ناجي شحاتة” وغيره من قضاة الإعدامات في مصر وينكلون بالإخوان والمعارضين، لأن السيد “الكومي” كان يخشى على أمثالهم من “الإهانة”
تم نشر هذا المقال بتاريخ 8/14/2016