حمص تحت الحصار…تاريخ يكتبه أهلها
يهدف المؤلف مشير عون من خلال هذا الكتاب إلى أن يبين أنه ثمة فائدة كبيرة للفكر العربي الحالي في أن ينظر في مشروع الفيلسوف الألماني “مارتن هايدغر” الذي تميّز بتأثيره الكبير على المدارس الفلسفية في القرن العشرين.
في البداية تبرز ثلاث إشكاليات قبل الحديث عن أي مساهمة محتملة للفكر الهايدغري في تطوير الفكر العربي. تتمثل الإشكالية الأولى، بالطرح الذي يتناول حقيقة وجود فكر عربي موحد لعقد مقارنة بينه وبين فكر هايدغر، وهنا يحدد المؤلف ثلاثة أنساق فكرية عربية معاصرة، هي: الفكر الفلسفي التراثي ذو النمط الإسلامي، والفكر العربي ذو الاتجاه الحداثي الذي ينتمي إلى العلمانية، والاتجاه الفلسفي “التوفيقي” الذي يعبّر عن المرونة والانفتاح على التراث والحداثة.
أما الإشكالية الثانية، فترتبط بالسياق الذي تكوّن فيه هذان الفكران، فالفكر الهايدغري ينشب جذوره في العالم الغربي الحديث، وبالتالي فإن المشكلات التي استدعت قيامه تختلف جوهريا عن المشكلات التي يواجهها الفكر العربي.
تبرز الإشكالية الثالثة، في الاقتباس العربي الهزيل لفكر هايدغر حتى الآن، خاصة أن فكر هايدغر، بحسب المؤلف “لم يثر في العالم العربي على الإطلاق أي شغف عقلي، كما أنه لم يمارس البتة أي إغواء أيديولوجي”.
يطرح الكتاب مقارنة شكلية وبنيوية للفكرين العربي والهايدغري، فبينا كان الفكر العربي فكرا “لاهوتيا” في الأساس، ينطلق من الدين الإسلامي ويختصه بمكانة عالية، ويحاول التوفيق بين النصوص الدينية والواقع الذي يعيشه، فإن الفكر الهايدغري في الأساس فكر “وجودي” يحركه السعي إلى كشف حقيقة الكون وعلاقة الاختلاف والمواجهة بينه وبين الإنسان.
ورغم أن المقارنة الشكلية تبين وجود اختلاف صريح بين الفكرين الهايدغري والعربي، إلا أن ذلك الاختلاف لا يمنع من وجود تقارب في الأفكار، منها “نقد الغرب” الذي ينتشر بشدة في اتجاهات الفكر العربي الإسلامي بصورة قد تصل إلى الشراسة أحيانا، بهدف الدعوة إلى العودة إلى التراث وحل مشكلات العالم العربي من داخله، وهو نقد نجده في فكر هايدغر لكن بطريقة مختلفة، إذ يرى الأخير أن الحداثة الغربية حجبت عن الإنسان اكتشاف حقيقة “الكون”.
يقدم الكاتب بعض إمكانات الإسهامات الهايدغرية المحتملة في الفكر العربي المعاصر، ويقترح موضوعات يمكن الاستفادة منها في إطار مشروع فلسفي يهدف إلى ترميم هذا الفكر وتجديده.
أبرز تلك الموضوعات يدور حول محور “النهضة” والنظرة إلى دور الإنسان والجماعة، فالفكر العربي مدعو إلى إعادة النظر في أصوله وماضيه وتراثه من زاوية النقد والتفكيك وإعادة البناء، حيث تبرز المشكلة الأساسية بالنسبة لهذا الفكر في اتجاهه إلى “الشمولية” باختلاف تياراته، وهو ما أدى إلى غرق العالم العربي في الاستبداد السياسي منذ قرون.
وهنا تبرز إمكانية الاستفادة من المقاربة الهايدغرية للفكر، فهو يحتوي على إمكانيات ثرية في ما يخص فكرة المساءلة وإعادة الاعتبار للإنسان. كما أن الإسهامات المتعلقة بما هو سياسي عند هايدغر تتضمن علاجا قادرا على مقاومة الانحرافات الناجمة عن الاستبداد السياسي في العالم العربي، وهو استبداد لا يتم القضاء عليه عادة إلا عن طريق استبداله باستبداد آخر. وهايدغر هنا يدعو العقل العربي الجمعي إلى إعادة الاعتبار لدور الجماعة “الشعب” لتصبح لها السلطة بدلا من أن تمتثل هذه السلطة في يد شخص واحد.
وهنا يؤكد الكاتب أن هذا الدور الجديد للشعب يتجاوز فكرة تسهيل مشاركة الجماهير في اتخاذ القرار السياسي ضمن الآليات الانتخابية الديمقراطية المتعارف عليها، فهي غالبا ما يتم التحكم بها عن طريق مطامع مراكز القوى ومجموعات المصالح داخل المجتمعات، كما أنها في جوهرها “غير متساوية” لأنها قائمة على نمط واحدة يقوم على ما يشبه استدعاء الجماهير عند الحاجة إليها لإبداء رأيها في قضايا جزئية لتنصرف مرة أخرى إلى حياتها. وبالتالي سيؤدي هذا الإسهام الهايدغري إلى إعادة النظر كليا في المفاهيم الأساسية التي تنظر إلى الإنسان في الفكر العربي لتعيد الاعتبار إليه وتمنع أي سلطة من التلاعب به والهيمنة عليه.
ينبّه المؤلف إلى أنه ما من فكر فلسفي قادر وحده على الاستجابة لتعقيدات الواقع العصية على الحل، فاقتراح الفكر الهايدغري باعتباره نموذجا للإصلاح لا يعني أن هذا الفكر بمنأى عن أي قصور، لكن هذا القصور لا يعني أن الفكر الهايدغري لم يعد مؤهلا لخدمة قضية الإنسان العربي. فعلى الرغم من أن صروح الفكر البشري شيّدت بطريقة مختلفة، فإن عليها أن تتبادل المساعدة، وبالتالي فإن أفضل موقف فلسفي يليق بمهمة العالم العربي يجب أن تقوم على امتداح هايدغر وانتقاده في الوقت نفسه.
تم نشر هذا المقال بتاريخ
6/13/2016