مصر: لماذا اختلف تعامل قوات الأمن مع المظاهرات الأخيرة؟
على غير العادة لم تستخدم قوات الأمن المصرية الرصاص الحي لفض مظاهرات أمس الجمعة التي شارك فيها الآلاف من المتظاهرين المنتمين إلى مختلف القوى السياسية في مصر، وتركزت جهود الفض على استخدام قنابل الغاز والهراوات والاعتداءات البدنية في معظم الحالات، مع بعض الشهادات القليلة التي أكدت استخدام طلقات الخرطوش.
أما المظهر الثاني من التعامل غير المعتاد فكان إطلاق سراح معظم المقبوض عليهم من أقسام الشرطة بعد ساعات قليلة من القبض عليهم، ما عدا 26 شخصا بقوا حتى اليوم السبت للعرض على النيابة، وأعلن الإفراج عنهم، قبل أن تعدل نيابة قصر النيل من قرارها وتقرر حجزهم حتى يوم غد لحين وصول تحريات الأمن الوطني.
وقد أثار هذا التعامل علامات استفهام كثيرة، وتساؤلات حول السبب الحقيقي لذلك، في ظل تصاعد الانتقادات الموجهة إلى نظام عبد الفتاح السيسي، وتنامي الغضب الشعبي ضده.
التغطية الإعلامية
مؤشرات أخرى تمثلت في اختلاف التغطية الإعلامية لبعض وسائل الإعلام المصرية، ففي الوقت الذي تجاهلت فيه الفضائيات المظاهرات في البداية، عادت بعد ذلك ونقلت بثا حيا لجزء منها في النهاية، ومنها قناة “سي بي سي”. وقال خيري رمضان المذيع بالقناة إن التلفزيون المصري ومعظم الفضائيات الخاصة تجاهلت الاحتجاجات في بدايتها، معتبرا أن ذلك لم يكن أمرا جيدا، فيما قدمت قناة “النهار اليوم” تغطية للمظاهرات وتابعتها منذ بدايتها وحتى انتهائها.
وبعد أن وصف عدد اليوم السبت من صحيفة الوفد المظاهرات بأنها “فشنك” أي زائفة، عادت الصحيفة ونشرت في عدد غدا الأحد تقريرا نقلا عن “مؤشر الديمقراطية” يتحدث عن خروج 33 مظاهرة في 13 محافظة يوم الجمعة.
ورغم دفاعه الشديد عن السيسي في معظم قراراته خلال الأيام الماضية، خاصة خطابه الأخير الذي حذر فيه من سماع كلام أحد غيره، إلا أن معتز عبد الفتاح عاد وانتقد السيسي في برنامجه على قناة المحور أمس الجمعة بعد المظاهرات، معتبرا أنها “كسرت حاجز الخوف” وأن استراتيجية “اسمعوا كلامي أنا بس” لا تنفع مع هذا الجيل. مطالبا بحل سياسي للمشاكل بدلا من الطرق الأمنية.
توحد القوى السياسية
التفسير الأول لاختلاف التعامل الأمني هو اشتراك تيارات سياسية عديدة في المظاهرات، وهو ما خلق نوعا من الوحدة التي صعبت على النظام استخدام القوة ضدها، وهو ما رآه الشاعر “تميم البرغوثي” في تدوينة على فيسبوك، مؤكدا أن الشرطة لم تطلق النار لأن الجميع نزلوا سويا، وأنه لو كانت المظاهرات قد اقتصرت على فصيل واحد لكان قد تعرض للضرب بالنار، مضيفا “الوحدة، حرفيا، بتطول الأعمار”.
لكن هذا التفسير يتجاهل قيام قوات الجيش والشرطة بإطلاق النار على مظاهرات سابقة رغم اشتراك قوى سياسية متنوعة بها، مثل مظاهرات يوم الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني عامي 2014 و2015، التي اشتركت فيها جماعة الإخوان المسلمين وحركة شباب 6 أبريل، وقتل فيهما العشرات من المتظاهرين المنتمين إلى تيارات سياسية مختلفة.
صراع الأجهزة
التفسير الثاني يتعلق بوجود صراع بين أجهزة الدولة، أو ما يطلق عليها “الدولة العميقة” فيما يتعلق بإدارة شؤون البلاد، وهو الصراع الذي تحدث عنه صراحة عدد من الإعلاميين الموالين للنظام في برامجهم وصحفهم، وإليه يعزى ارتباك أجهزة الدولة في قضية مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة، كما يفسر مراقبون عدم تعاون القاهرة مع المحققين الإيطاليين في القضية نظرا لتورط جهاز أمني مصري في اختطاف ريجيني وتعذيبه حتى الموت في إطار صراع الأجهزة. بالإضافة إلى ظهور المصطلح في سياق أحداث أخرى، مثل إقالة وزير العدل السابق أحمد الزند، والإطاحة بهشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، ووضعه قيد الإقامة الجبرية.
ولذلك فإن مؤيدي ذلك الرأي يستندون إلى احتمال إصدار أحد أجهزة الدولة أوامر لقوات الشرطة بعدم التعامل العنيف مع المتظاهرين، لتوصيل رسالة إلى السيسي واستغلال المظاهرات للضغط عليه في إطار الصراع الدائر.
خداع استراتيجي
فيما رأى البعض أن ما حدث إنما هو عبارة عن عملية خداع يمارسها النظام تمهيدا للقيام بإجراءات قادمة ضد الثوار، وهو ما رآه الدكتور عصام عبد الشافي أستاذ العلوم السياسية، الذي كتب على فيسبوك قائلا “رغم اعتزازي بما تحقق يوم ?جمعة الأرض.. إلا أن هناك الكثير من المؤشرات التي تؤكد لي أن هناك عملية خداع استراتيجي يقوم بها الخونة ضد الوطن، وضد الثورة” وتساءلت الدكتورة نجوان الأشول، رئيسة المركز العربي لتحويل النزاعات والتحول الديمقراطي، عن سبب سلوك الشرطة المتساهل مع المتظاهرين، طارحة عدة أسباب قد تكون وراء ذلك، منها وجود تفكك داخل النظام، أو استعدادا ليوم الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان، الذي حددته القوى السياسية كموعد للتظاهر أيضا.
زيارة هولاند والضغط الدولي
أما التفسير الأكثر شيوعا، فقد تحدث عن الزيارة المتوقعة للرئيس الفرنسي “فرانسوا هولاند” إلى مصر غدا الأحد ولقاءه بالسيسي، وهي الزيارة التي من المتوقع أن تسفر عن صفقة أسلحة ضخمة تقدر بنحو مليار يورو، وهو ما أدى إلى التعامل الأخير لقوات الأمن تجنبا من تعرض السيسي للإحراج أمام هولاند والوفد المرافق له، خاصة بعد توجيه خمس منظمات حقوقية دولية أمس الجمعة رسالة مفتوحة للرئيس الفرنسي طالبته فيها بالتدخل لدى السلطات المصرية لوقف القمع والتضييق الذي يتعرض له المعارضون المصريون من النظام.
والمنظمات الخمسة هي: منظمة العفو الدولية، والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، ومنظمة هيومن رايتس ووتش، والشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان ورابطة حقوق الإنسان.
واعتبرت المنظمات الخمس أن أجهزة الدولة المصرية “تمارس قمعا وحشيا غير مسبوق على المعارضين والناشطين ومنظمات المجتمع المدني”.
ويعد هولاند أحد الرؤساء الغربيين القلائل الذين يتمتعون بعلاقات جيدة مع نظام السيسي، وتعتبر هذه الزيارة الثانية له إلى مصر بعد حضوره حفل افتتاح تفريعة قناة السويس في أغسطس/ آب من العام الماضي، وشراء مصر 24 طائرة من طراز “رافال” في صفقة بلغت قيمتها بأكثر من 5 مليارات يورو.
وقد أثارت وسائل إعلام فرنسية قضية مقتل أحد المواطنين الفرنسيين في مصر عام 2013، وطالبت الرئيس الفرنسي بإثارة الموضوع مع السيسي أثناء الزيارة. وقال الناطق الرسمي باسم وزير الخارجية الفرنسي إن بلاده تتحرك في باريس والقاهرة “حتى تُسلط كل الأضواء على هذه المأساة”.
كما يأتي ذلك عقب الضغوط الدولية المتواصلة التي يتعرض لها نظام السيسي عقب مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وهي ضغوط تمثلت في سحب السفير الإيطالي بالقاهرة، والاتجاه لفرض عقوبات اقتصادية على مصر. ولا يكاد يخلو يوم دون تناول الصحف العالمية لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر وتوجيه هجوم كبير وانتقادات لاذعة للنظام المصري والحكومات الغربية التي تسانده.
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” من أواخر تلك الصحف، التي دعت في افتتاحيتها الصادرة أول أمس الخميس الدول الغربية إلى إعادة النظر في علاقتها بمصر، منتقدة الرئيس الفرنسي الذي سيعقد صفقة أسلحة مع النظام المصري متحديا قرار البرلمان الأوربي الشهر الماضي الذي نادي بحظر تصدير المعدات الأمنية والمساعدات العسكرية لمصر، مؤكدة أن “الفشل في الالتزام بذلك سيكون بمثابة ضوء أخضر لمزيد من الوحشية من قبل نظام السيسي”.
السيسي “المتسامح”
عادة ما ترتبط لقاءات السيسي مع المسؤولين الغربيين في القاهرة أو بالخارج بانفتاح مؤقت في الشارع المصري، يتمثل في الإفراج عن نشطاء سياسيين معتقلين في السجون المصرية، وإطلاق تصريحات تبدو مرحبة بالمصالحة الداخلية، أو حتى السماح للمظاهرات المعارضة كما حدث أمس الجمعة.
فقبل توجه السيسي إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول عام 2014، أفرجت السلطات المصرية عن الناشطة “ماهينور المصري”، كما أصدرت محكمة مصرية قراراً بالإفراج عن الناشط علاء عبد الفتاح بكفالة، إلا أن السلطات سرعان ما ألقت القبض على ماهينور وعلاء مرة أخرى بعد شهر من عودة السيسي إلى مصر مرة أخرى، ومازالا معتقلين حتى الآن.
وفي 24 سبتمبر/ أيلول الماضي، توجه السيسي للمرة الثانية إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد أن أصدر عفوا عن 100 سجين سياسي، بينهم صحفيي الجزيرة محمد فهمي وباهر محمد. وبرر النظام المصري هذا القرار بمناسبة حلول عيد الأضحى.
أما قبل زيارة السيسي إلى ألمانيا في يونيو/ حزيران الماضي، فقد قررت محكمة جنايات القاهرة بصورة مفاجئة تأجيل النطق بالحكم على الرئيس المعزول محمد مرسي وقيادات جماعة الإخوان المسلمين في قضيتي “اقتحام السجون” و”التخابر” لجلسة 16 يونيو/ حزيران الماضي، أي بعد عودة السيسي من ألمانيا، وبالفعل أصدرت المحكمة مئات من أحكام الإعدام على مرسي وقيادات الإخوان في جلسة النطق بالحكم. وقال مراقبون إن التأجيل حدث بسبب عدم رغبة السيسي في تلقي انتقادات أثناء زيارته.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أفرجت السلطات المصرية عن الصحفي والناشط الحقوقي “حسام بهجت” بعد أيام قليلة من القبض عليه، عقب ساعات قليلة من تصريح للأمين العام للأمم المتحدة “بان غي مون” أعرب فيه عن قلقه الشديد إزاء القبض على بهجت، والتي وصفها بـ”خطوة ضمن سلسلة من الاعتقالات بحق المدافعين عن حقوق الإنسان وغيرهم”، كما تم الربط بين هذا الإفراج اللقاء الذي كان مزمعا عقده بين السيسي والأمين العام للأمم المتحدة في نفس الشهر، ولذلك صدر قرار الإفراج تجنبا لإثارة الأمر أثناء اللقاء، وبالفعل تم اللقاء أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني على هامش قمة المناخ بالأمم المتحدة.
ويبقى رد فعل قوات الأمن تجاه مظاهرات يوم الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان الجاري مثيرا للتساؤل، ما بين استمرار التعامل الأول أو العودة إلى أسلوب القمع العنيف الذي تنتهجه منذ انقلاب الثالث من يوليو/ تموز عام 2013.
تم نشره بموقع الجزيرة مباشر بتاريخ 4/16/2016
http://mubasher.aljazeera.net/news/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D9%84%D9%81-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%85%D9%84-%D9%82%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86-%D9%85%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B8%D8%A7%D9%87%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1%D8%A9%D8%9F