مصر: الأجهزة الأمنية والسيادية تتحكم في الحياة المدنية (2-2)
أثار الخبر الذي نشرته صحيفة الشروق المصرية عن قافلة ينظمها جهاز المخابرات العامة المصرية في محافظة أسيوط ردود فعل واسعة من المتابعين.
تضمنت القافلة التي بدأت أمس الأحد وتمتد حتى غدا الثلاثاء، 4 عيادات متنقلة بالإضافة إلى عيادات تتنقل من موقع لآخر، ويشارك فيها 20 طبيب، وهي “الأولى من نوعها والتي ينظمها جهاز المخابرات العامة بالاشتراك مع مديرية الصحة على مستوى الجمهورية” وفقا لما جاء في الصحيفة.
كان للخبر ردود فعل واسعة تنوعت بين الاستنكار والسخرية، وعلق متابعون بسخرية إنه قد حدث تبادل أدوار بين وزارة الصحة التي ستقوم بمهمة حماية الأمن القومي بدلا من جهاز المخابرات.
وكانت صحيفة لعربي الجديد قد كشفت عن تدخل جهاز المخابرات العامة لمحاولة تحسين الوضع الاقتصادي المتردي، عبر دعوة عدد من رجال الأعمال لاجتماع مع وكيل الجهاز لحثهم على عدم تهريب أموالهم إلى الخارج والاستمرار في مشروعاتهم داخل مصر، مع تقديم وعود لهم بحل أي مشاكل تواجههم.
تشير هذه الأنباء إلى دور كبير في الحياة المدنية تحاول أن تلعبه الأجهزة الأمنية والسيادية في مصر، مع إسناد عشرات المشروعات في كافة المجالات المدنية الأخرى إلى الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية. مع نشر صحف مصرية تقارير عن إسناد 6 ملفات لأجهزة سيادية، أبرزها إنشاء شبكة الطرق وتوفير عقار فيروس “سي” وعلاج للسرطان وصيانة المدارس الحكومية.
وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2014، أعلن خالد عبد العزيز وزير الشباب والرياضة، عن إنشاء 625 ملعبا جديدا لكرة القدم بالنجيل الصناعي، مع إسناد إنشاء جميع الملاعب إلى وزارة الإنتاج الحربي، وجهاز المخابرات العامة.
لكن هذه الملفات شهدت تعثرات، مثل الانهيارات الجزئية المتكررة في الكباري التي أشرفت على إنشاءها القوات المسلحة، إذ شهد هذا العام 7 انهيارات لكباري في محافظات مختلفة.
وأرجع مراقبون سبب توغل الأجهزة في الحياة المدنية إلى اقتراب بدء المنافسة على انتخابات المجالس المحلية، بعد أن كشف النقاب عن سيطرة الأجهزة على الانتخابات البرلمانية منذ بدايتها.
الانتخابات البرلمانية
كان التحقيق الاستقصائي للصحفي حسام بهجت الذي نشر على موقع مدى مصر آخر ما كشف عنه فيما يتعلق بسيطرة الأجهزة الأمنية على مجلس النواب وتخطيطها للانتخابات البرلمانية بالكامل.
تضمن التحقيق اعترافات مثيرة من أعضاء بالأحزاب السياسية توضح كيف تحكمت أجهزة الأمن والمخابرات بالعملية الانتخابية وتشكيل التحالفات وتكتلات المرشحين. منطلقا من شهادة الناشط السياسي حازم عبد العظيم، التي نشرها أوائل العام الجاري، وكشف فيها عن دور جهاز المخابرات العامة في تشكيل قائمة “في حب مصر” الانتخابية الموالية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
ومن ضمن النقاط التي أثارها التحقيق، كانت استحواذ ضابط المخابرات العامة ياسر سليم على جانب مهم من المشهد الإعلامي المصري لصالح الجهاز خلف واجهة شركة إعلامية تدعى “بلاك أند وايت”، التي حصلت على كافة الحقوق التسويقية الحصرية لجريدة وموقع اليوم السابع داخل وخارج مصر بالشراكة مع شركة “بروموميديا”. كما قامت بشراء كامل أسهم موقع “دوت مصر” وتقوم حاليا بإنتاج برنامج “توك شو” يومي على التلفزيون المصري بعنوان “أنا مصر”.
وقد اعترف “أشرف رشاد” الأمين العام لحزب مستقبل وطن لموقع مدى مصر بالعلاقة الوثيقة لحزبه بجهاز المخابرات الحربية، قائلا إن قيادات الجهاز “كانوا أكثر من تحمس لنا ودعمونا وساعدونا في التواصل في المحافظات خاصة على مستوى القيادات التنفيذية”.
كما نقل التحقيق عن أحد أعضاء مجلس النواب قوله إن أعضاء المجلس أصبحوا ينتظرون مداخلات النائب عبد الرحيم علي ليعرفوا توجهات قطاع الأمن الوطني، وهي التوجهات التي تأتي عادة في مواجهة مداخلات سامح سيف اليزل وأسامة هيكل المعبرة عن رأي المخابرات العامة، بحسب النائب، الذي يشير إلى أن هذا التوتر تعبر عنه أيضاً المواجهات الإعلامية بين جريدة البوابة لصاحبها عبد الرحيم علي في مواجهة جريدة اليوم السابع وثيقة الصلة بجهازي المخابرات.
وكانت صحفية الشروق قد كشفت عن دور الأجهزة الأمنية في اختيار رئيس مجلس النواب علي عبد العال، بعدما نشرت في ديسمبر/ كانون الأول الماضي تقريرا عن إرسال كشف بالأسماء التي يتوقع أن تتولى رئاسة المجلس إلى أجهزة رقابية وأمنية لفحص ملفاتهم ورصد “توجهاتهم السياسية” و”آرائهم في الأحداث التي تمر بها البلاد”.
وكشفت مصادر لصحيفة العربي الجديد في يناير/ كانون الثاني الماضي عن معارضة جهازي الاستخبارات العامة والرقابة الإدارية، اللذين أشرفا على تشكيل الأكثرية النيابية المسماة “دعم مصر” لتولي القاضي السابق سري صيام رئاسة البرلمان، وأن وزير العدل المقال أحمد الزند كان يرغب في الاستقالة من الحكومة والانتقال إلى البرلمان على رأس المعينين، لكنه وُوجِه باعتراضات.
واعتبرت الصحيفة أن دائرة جهازي المخابرات العامة والرقابة الإدارية أصبحت الأكثر نفوذاً بعد تهميش الدائرة الأمنية التي يقودها جهاز أمن الدولة، نتيجة إقالة معظم قيادات جهاز الأمن الوطني قبل ذلك بشهر.
وكان المستشار سري صيام قد تقدم باستقالته من مجلس النواب في فبراير/ شباط الماضي، احتجاجا على تهميشه.
الإعلام
اللافت في المشاحنات الإعلامية بين عدد من الإعلاميين والسياسيين في الفترة الأخيرة، هو استقواء كل منهم علنا بالأجهزة التي تحميه وترعاه، في ظاهرة لم تحدث من قبل، حيث كان الإعلاميون يحرصون قبل ذلك على نفي أي صلة بينهم وبين أي أجهزة.
بدأ المذيع عمرو أديب ذلك الحديث في معركته الأولى مع المذيع توفيق عكاشة، بعد هجوم الأخير على أجهزة سيادية بالدولة، إذ انتقد أديب تعامل عكاشة مع “الأجهزة” قائلا لعكاشة: أنت عار علينا كلنا.. لا يصح أن تستفيد من الأجهزة السيادية دون أن تعمل معها، واللي عايز يعيش مع الأجهزة يعيش بس مايجيش بعد كدة يقول مفيش”. وأكد أديب وقتها أن أحد الأجهزة السيادية قام بحمايته في مكان آمن لمدة أسبوعين في عهد الإخوان، لأنه “ابن الأجهزة الأمنية المدلل”. مضيفا “الراجل زودها.. الدولة بتقوله محدش يعمل معايا كدة.. هزر آه إنما عته لا”.
واستطرد أديب متحدثا عن عكاشة “الأجهزة لما تبقى حلو معاه يبقى حلو معاها، ولما الأجهزة تبقى مبتسمعش الكلام يبقى وحش”.
وقسم أديب الإعلاميين إلى 3 أقسام: الأول يتعامل مع الجهات “السيادية” والثاني لا يعرف هذه الجهات، والثالث “يلجأ لهم ليحصل على معلومات”.
كما انتقد المذيع سيد على توفيق عكاشة، مطالبا من سماهم “الكبار العاقلين” بالتعامل معه، في إشارة إلى الأجهزة.
أما عن تصريحات عكاشة التي تسببت في هذا الهجوم فكانت متعلقة ب”الأجهزة” أيضا، إذ صرح في برنامج “السادة المحترمون” لمذيع البرنامج يوسف الحسيني: “كلنا كنا اصدقاء للأمن” وعلق الحسيني على ما قاله عكاشة “أنا ما كنتش صديق لهم” فرد عليه عكاشة “كلنا بلا استثناء كنا أصدقاء للأمن من أجل إسقاط الإخوان”.
وخلال لقائه اتهم عكاشة الأجهزة الأمنية بأنها أكلته لحما ورمته عظما. كما أكد أن المخابرات والأمن الوطني يتم إدارتهما بتعليمات اللواء عباس كامل مدير مكتب السيسي.
أما مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك وعضو مجلس النواب، فكان آخر من صرحوا بذلك، إذ أكد لموقع “انفراد” أن أجهزة كبيرة في الدولة قالت له إن مطالبة النائب علاء عبد المنعم عضو مجلس النواب بإسقاط عضوية منصور “تصرف فردي” وأنه لا يحسب على تلك الأجهزة.
وكانت وسائل إعلام قد شنت حملة على مرتضى منصور وطالبت بإسقاط عضويته في البرلمان، في إشارة إلى عدم رضاء بعض الأجهزة عنه، ما دفع منصور إلى التأكيد على وجود أجهزة أخرى ما زالت تدعمه.
هجوم
ولم تخل حديث الإعلاميين عن “الأجهزة” من هجوم عليها، فقد استنكر الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى الهجوم الذي يتعرض له حمدين صباحي، زعيم التيار الشعبي والمرشح الرئاسي السابق، على خلفية إطلاقه لمبادرة “صناعة البديل الحقيقي”، مضيفا “هذه الرؤية واجبة على صباحي والمعارضة، إنها حق للشعب وللأمة، لن نُدار بطريقة إن الأجهزة عايزانا نسكت، هو ده اللي كان بيحصل أيام مبارك لغاية ما سلموا الدولة للإخوان، اللي حريص على البلد هو الشعب ومثقفيه ومفكريه الذين تعكفون على منعهم وسجنهم”.
اعترافات “إعلامية”
لم يكن رواج مصطلح “الأجهزة” هو الأول من نوعه في الإعلام المصري، رغم كونه الأكثر كثافة، لكنه كان متواجدا منذ انقلاب الثالث من يوليو، على شكل اعترافات بتحكم أجهزة الأمن بالمشهد الإعلامي والسياسي.
ففي يناير/ كانون الثاني الماضي، أكد المذيع مفيد فوزي في حوار مع قناة الحياة أن جهاز أمن الدولة مازال موجودا ويتحكم في المشهد الإعلامي كما كان الأمر أيام الرئيس المخلوع حسني مبارك.
وقال المذيع سيد علي في يونيو/ حزيران الماضي، إن إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة تتعامل مع الإعلاميين باعتبارهم “خرفان” وأنها ترسل ما تريد للإعلاميين ليقوموا بنشره.
وبعد ثورة يناير بشهرين، اعترف المذيع محمد الغيطي أن جهاز أمن الدولة كان قد نجح في استقطاب 90% من رؤساء تحرير ورؤساء مجالس الصحف القومية.
مشاعر فخر
لكن بعض هذه الاعترافات اختلطت بمشاعر أخرى، إذ عبر بعضهم عن فخره بالعمل مع الأجهزة الأمنية، وتمنى آخرون أن توافق الأجهزة على أن يعملوا لحسابها.
كان المذيع أحمد موسى أبرز هؤلاء، إذ يكرر بصورة دورية اعتزازه بالعلاقة بينه وبين الأجهزة الأمنية والسيادية في الدولة، واصفا نفسه بأنه يدافع عن شعب بلده ضد “الخونة والمجرمين”.
ووصف تامر أمين نفسه في أبريل من العام الماضي بأنه “مخبر الإعلام” داعيا المواطنين بأن يكونوا “مخبرين” و”مرشدين” لصالح بلدهم والإبلاغ عن أي نشاط “إرهابي” حسب تعبيره.
وقبل ذلك في مارس/ آذار من العام نفسه، اعترف أمين أنه سبق أن قام بتسليم ثلاثة من ضيوفه لقوات الأمن، بعد انتهاء لقاءاته معهم.
ودائما ما يستخدم بعض الإعلاميين طريقة موحدة للهجوم على خصومهم، وهو الإيحاء بأن “أجهزة الدولة” غير راضية عنه، في إشارة إلى تلقيهم تعليمات بالتصريح بذلك الكلام.
لكن خالد صلاح رئيس تحرير صحيفة اليوم السابع هاجم “الأجهزة” أوائل الشهر الجاري، لأنها ترغب في تشويه الإعلام المصري وتوريطه، من خلال تصديرها أمثال توفيق عكاشة، للمشهد السياسي والإعلامي وحمايته، حسب قوله. مضيفا إن ما سماها “الأذرع الأمنية المسئولة عن البلد” لديها نية واضحة في تشويه الإعلام الجاد، وإلهاء الناس عن القضايا المهمة، محذرا “الأجهزة” من أن ظاهرة عكاشة ستنقلب عليها في النهاية. وتوجه صلاح بحديثه إلى ائتلاف “دعم مصر” –الذي أثبت تحقيق حسام بهجت أنه صنع على يد الأجهزة الأمنية- متسائلا عن سبب عدم قيامه ب”السيطرة” على ما يدور داخل المجلس. مختتما حديثه بالقول “طباخ السم لازم يدوقه، واللي يربي أفعى هتقرصه”، على حد تعبيره.
وقد عرف عن “عبد الرحيم علي” صلاته القوية بالأجهزة الأمنية، التي مكنته من إذاعة بعض المكالمات المسربة للسياسيين والنشطاء في برنامجه “الصندوق الأسود”. وهي علاقة عبر عنها علي بقوله إنه “من الشرف” له أن يكون صديقا للمخابرات المصرية.
الجزء الأول
تم نشره بموقع الجزيرة مباشر بتاريخ 3/22/2016
http://mubasher.aljazeera.net/news/%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AC%D9%87%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D8%AD%D9%83%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%86%D9%8A%D8%A9-2-2