العثمنة والعرب: سجالات القطيعة والتواصل
شكلت دراسة التاريخ العثماني والعلاقة بين العرب والأتراك محوراً بارزاً من اهتمامات وكتابات المؤرخ العراقي سيار الجميل، وكانت موضوعاً للعديد من كتبه، مثل “العثمانيون وتكوين العرب الحديث” و”العرب والأتراك: الانبعاث والتحديث من العثمنة إلى العلمنة” و”زعماء وأفندية: الباشوات العثمانيون والنهضويون العرب” وأخيراً “العثمنة الجديدة: القطيعة في التاريخ الموازي بين العرب والأتراك”.
يعود المؤلف في الكتاب الأخير إلى جذور تكوين ظاهرة “العثمنة الجديدة” والتي بدأت إرهاصاتها الأولى مع ظهور الفكرة الوطنية نتيجة تدهور أحوال الخلافة العثمانية مع بداية القرن التاسع عشر، رغم محاولات الإصلاح المستمرة، بدءاً من مشروع الإصلاحات الكبير لدى السلطان العثماني “سليم الثالث” مروراً بـ”محمود الثاني”، وهما مشروعان أديا إلى القضاء على النظم القديمة داخل الدولة العثمانية، وشكلا أساساً لمشروع التنظيمات العثمانية في عهدي عبد المجيد الأول، وعبد العزيز الأول. استمر الصراع بين التقليديين و”المستنيرين” داخل الدولة العثمانية طوال القرن التاسع عشر، مع تجربتي تأسيس دستور بين عامي 1876 و1908، وهي فترة شهدت تشكيل تنظيم سياسي قومي “تركيا الفتاة”الذي تطور إلى جمعية “الاتحاد والترقي” وبرزت ظاهرة “الكمالية” نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك، والتي اعتبرت الكمالية حصيلة تاريخية لمشروع التقدم العثماني.
ينطلق الكتاب من فرضية “التاريخ الموازي” في التاريخ والماضي المشترك الذي جمع بين عدة شعوب في مراحل تاريخية سابقة، فمنذ بدايات القرن السادس عشر حتى بدايات القرن العشرين، اذ اشترك العرب مع الأتراك في عيش مشترك لأكثر من 400 عام، حتى حدثت القطيعة التاريخية في الحرب العالمية الأولى التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية وتجزئتها إلى كيانات ودول.
من هنا يرى المؤلف أن “العثمنة الجديدة” هي محاولة من الإسلام السياسي التركي المعاصر، لتوظيف التاريخ الموازي بين العرب والأتراك، من أجل خدمة السياسة الخارجية التركية.
ولعل أهم أقسام الكتاب ذلك المتعلق بنقد أطروحة أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء التركي الحالي، ووزير الخارجية السابق، والتي صاغها في كتاب “العمق الاستراتيجي“. فقد لقي الكتاب منذ صدوره احتفاء واسعاً من الدوائر العربية، التي وجدت فيه محاولة من تركيا للرجوع إلى الاهتمام بالمنطقة العربية من جديد، واستعادة “الإرث العثماني” بما يحمله من إيجابيات، خاصة أن مؤلفه كان يشغل في ذلك الوقت منصب وزير الخارجية في حكومة العدالة والتنمية التي أبهرت الكثيرين في العالم العربي.
يطرح أوغلو في كتابه أفكاراً عديدة، منها قوله إن الثقافة السياسية في تركيا تتميز عن غيرها من مناطق العالم، خاصة أوروبا والشرق الأوسط، إذ أسست الدولة العثمانية بنية سياسية أكثر استقراراً في ثلاث قارات في القرن السادس عشر، بينما المجتمعات الأوروبية جزأتها الحروب في القرن نفسه، وانقسم الشرق الأوسط بين أنظمة ملكية وأخرى جمهورية تفتقد كلتاهما إلى الدينامية التي ميزت تركيا.
يفسر الكاتب الاحتفاء بحديث أوغلو في كتابه عن اهتمام تركيا بالمنطقة العربية والعمل على حل مشكلاتها بأن مثل هذا الحديث “ينعش التفكير الرومانسي العربي، ويدغدغ أحلام أولئك الذين مازالوا متعلقين بأمجاد التاريخ الإسلامي، من دون معرفة ما تطمح إليه تركيا في العمق الاستراتيجي”.
نجحت أطروحة أوغلو في أول الأمر وفقاً للكاتب، خاصة ما يتعلق بسياسة “صفر مشكلات” مع دول الجوار، لكنها على الجانب الآخر أثارت استياء نخب وشعوب كثيرة -خاصة في البلقان- التي طوت صفحة التاريخ العثماني واعتبرته “مصدراً للخراب المعاصر”، إذ لابد من فهم تجديد التاريخ قبل صبغه بأي صبغة دينية أو أيديولوجية أو ثقافية، كما أن توظيف التاريخ لا يمكن أن يجري بمثل هذه الطريقة “الساذجة” وفقاً للمؤلف، خصوصاً أن الذاكرة التاريخية في شأن العثمانيين لا يمكن توظيفها باستعادة شعاراتها قبل أن تدرك ما قدمته للعالم في زمنها فحسب. ولا يمكن للأتراك احتكار الذاكرة التاريخية العثمانية، فهي مغروسة بكل ما حملته من إيجابيات وسلبيات، وبالتالي لا يستطيع الفضاء العثماني أن يستعيد قوته على يد العثمانيين الجدد من أجل مصالحهم الضيقة.
الرؤية التي تبنتها بعض شعوب البلقان بحيث أنها تنظر للتاريخ العثماني باعتباره مصدراً للخراب المعاصر، يتبناها المؤلف فيما يتعلق بالإرث العثماني في الدول العربية. إذ يرى أن السيطرة العثمانية على المجتمع العربي الإسلامي منعته من التطور وقضت على الحياة التي كانت موجودة في ذلك المجتمع أيضاً، وهو ما أدى إلى تدهور الأحوال الاجتماعية والاقتصادية، وجعلها عرضة لهجمات الأمراض والأوبئة الفتاكة، علاوة على الغلاء والمجاعات، وأصاب العفن مؤسسات الدولة وانغلقت وتكلست وجمدت أمام أي محاولات للإصلاح.
لكن على الرغم من هذا النقد، إلا أن حكم المؤلف على السياسة التركية كما جاء بها داود أوغلو بالفشل، وحديثه عن معارضة متنامية داخل تركيا في الشارع السياسي والبرلمان للعثمنة الجديدة كما يقدمها العدالة والتنمية ربما جاء مبكراً، خاصة مع تحقيق الحزب فوزاً تاريخياً في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، وهو ما يمنح فرصة أخرى أمام صاحب “العمق الاستراتيجي” لإعادة المحاولة من جديد واستئناف ما بدأه في مجال السياسة الخارجية في السنوات المقبلة.
تم نشر هذا المقال بتاريخ
11/8/2015