هل يمكن العيش بدون عدو في الوقت الحاضر؟
ما الذي يدفع شخصا لقتل آخر لا يعرفه عن طيب خاطر واقتناع كامل؟
يحاول الباحث والأكاديمي والدبلوماسي الفرنسي “بيار كونيسا” الإجابة عن هذا السؤال في كتابه الجديد، ويذهب إلى أن “صنع العدو” بات يجري تشكيله عبر عملية بناء تخضع لها الشعوب لتهيئتها، بل أصبح يشكل خيارا أساسيا وضروريا في مراحل كثيرة بالنسبة للأنظمة، فالحرب قبل كل شيء هي ترخيص ممنوح للقتل، كما يقول “هنري ميشو”. بل يتجاوز “كارل شميت” ذلك بالقول إن صناعة الأعداء هي من أهم وظائف السياسيين.
يعرض المؤلف نماذج عديدة على مر التاريخ لكيفية صناعة العدو، مثل مصطلح “الخطر الأصفر” الذي ابتكره “غيوم الثاني” أثناء محاولة توحيد الدول الغربية التي تملك مستعمرات في آسيا لمواجهة صعود الصين واليابان. وأيضا مصطلح “ألبيون الغدارة” الذي أطلقته فرنسا على بريطانيا العظمى أثناء احتدام السباق على امتلاك المستعمرات بينهما. كما عرف التاريخ “المؤامرة اليهودية الماسونية” التي روج لها النظام النازي، لتبرير ما فعله باليهود.
لكن هل انتهت صناعة الأعداء في الوقت الحاضر؟ يجيب المؤلف بالنفي، لكن في الوقت الذي يضرب فيه أمثلة من التاريخ المعاصر على كيفية صنع الأعداء (مثلما قام به الجنرالات الأرجنتينيون الذين أعادوا إحياء المطلب المتعلق بجزر الفوكلاند البريطانية في ثمانينيات القرن العشرين) فإنه يؤكد على أن صنع العدو لم ينته حتى في الدول التي تصنف على أنها ديمقراطية، وهنا يبرز خطاب جورج بوش الابن عام 2002 الذي أعلن فيه عن مصطلح “محور الشر” الذي يضم إيران والعراق وكوريا الشمالية، الأمر الذي اعتبره المؤلف “مثالا معاصراً للإنتاج المصطنع للأعداء الذي قدمته أقوى ديمقراطية في العالم”.
وبالتالي لا تؤدي الديمقراطية إلى تحقيق السلم بالضرورة، وإلا لما قامت الولايات المتحدة بغزو العراق الذي أدى لمقتل أكثر من 90 ألف عراقي، ولا أقامت إسرائيل مستعمرات في الأراضي المحتلة.
يورد الكاتب العديد من الأدوار الاجتماعية والسياسية التي تؤديها عملية صناعة الأعداء في المجتمعات المعاصرة، فهي ترسخ الأواصر الجمعية، وتشكل مخرجا بالنسبة إلى سلطة تواجه مصاعب على الصعيد الداخلي، كما أنها تعمل كمهدئ عبر المسؤولية التي يلقيها على الجميع في مواجهته. بحيث تكون مهمة مؤسسات الفكر الاستراتيجي في الدول الديمقراطية الكبرى هي إنتاج خطاب حول السياق الدولي والتهديدات و”شرعنة استخدام القوة” إذا لزم الأمر.
ويحتل صناع الرأي العام دورا هاما في ذلك، على سبيل المثال أنتجت هوليود كمية كبيرة من أفلام رعاة البقر حول غزو الغرب الأميركي على أنها ملحمة عظيمة، بينما كانت في واقع الأمر إبادة ممنهجة للهنود الحمر أو السكان الأصليين لأميركا.
ويضع المؤلف في الفصل الثاني تصنيفات للأعداء، حسب أنواع الحرب التي تنتجها، وهي:
العدو القريب: وهي دولة جارة نتج النزاع معها بسبب خلاف حدودي، وتكون الحرب في هذه الحالة عبارة عن “نزع الملكية بعنف”.
الخصم العالمي: منافسة بين قوتين تعطيان لنفسيهما نزعة عالمية، وتعتبر الحرب الباردة أوضح مثال لهذا النوع، بالإضافة إلى التنافس بين الدول الكبرى قديما على احتلال المستعمرات، مثل الصراع بين إسبانيا والبرتغال، وبريطانيا وفرنسا بعد ذلك.
العدو الحميم: وهنا نتحدث عن الحرب الأهلية في دولة ما، وتكون الحرب في هذه الحالة فعلا استباقيا تحت شعار: أن نَقتُل قبل أن نُقتَل.
الهمجي: وهي الصورة التي تكون دائما في مخيلة القوة العسكرية الاستعمارية للشعوب التي تحتلها، ويكون القمع الذي يمارسه المحتل في هذه الحالة تجاه هذا الشعب “إحلالا للسلام”.
العدو المحجوب: قوة خفية ناتجة عن هاجس نظرية المؤامرة، وتعتبر أساس الانقلابات العسكرية في أميركا اللاتينية.
حرب الخير ضد الشر: يشرح المؤلف هذا النوع بطريقة ساخرة فهو عبارة عن “عملية لطرد الأرواح الشريرة” تستهدف إبادة الشر على مستوى العالم. وهو نوع غير مقتصر على الأحزاب الدينية، إذ استخدمته الأنظمة الشمولية الكبيرة في القرن العشرين.
العدو التصوري: يعتبر المؤلف أن هذا النوع هو وضع فريد عرفه العالم في عهد جورج بوش الابن، الذي لم يكن لديه عدو ليحاربه، فقرر محاربة مفاهيم في صراع شامل (الإرهاب-أسلحة الدمار الشامل وغيرها).
العدو الإعلامي: في هذا النوع تتفوق الصورة على النص، ويتحدد العدو بصورة أساسية عبر “مثقفين إعلاميين”.
كذلك يعرض المؤلف في هذا الجزء نموذجا لصناعة العدو الإعلامي، وهو نص كتبه المفكر والفيلسوف الفرنسي “برنار هنري ليفي” في مجلة “لوبوان” في يناير 2010، لتبرير الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2009، ويذكر في نهاية النص بأن هذه الحرب أدت إلى مقتل 1400 فلسطيني، في الوقت الذي لم يتجاوز فيه عدد القتلى الإسرائيليين 14 قتيلا.
هل يمكن العيش بدون عدو؟ يجيب المؤلف عن هذا السؤال عبر استعراض نماذج عدة. مثل المصالحة التاريخية بين ألمانيا وفرنسا بعد حروب مدمرة دارت بينهما، وقوانين العدالة الانتقالية في إسبانيا وأميركا اللاتينية.
لكن حتى مع إنشاء آليات دولية لتحقيق العدالة للمرة الأولى في تاريخ البشرية، ومحاولة تغيير قواعد الخروج من النزاعات بدلا من الآليات التقليدية للثأر والانتقام، ما تزال جميعها محاولات قاصرة برأي المؤلف فيما يخص ملاحقة ومعاقبة مرتكبي المجازر المنحدرين من بلدان فقيرة أو ديكتاتورية.
تم نشر هذا المقال بتاريخ
9/14/2015