شهدت مصر جملة من الغرائب والعجائب من بعض الشخصيات المضحكة التي تطلق تصريحات وتقوم بأعمال معاكسة تماما لطبيعة عملها المفترضة، حتى يمكننا بكل أريحية أن نطلق عليهم ألقابا تعكس حقيقة وظيفتهم.
“لا تحقيقات، لا محاكمات، تصفية فورية، الكلاب لا تحاكم، الكلاب تقتل”.
لم تخرج هذه الكلمات من أحد أنصار نظام السيسي المتحمسين، ولا حتى من الأذرع الإعلامية التابعة له، الذين أصبحوا يقولون هذه الكلمات بصورة شبه يومية، وإنما هي كلمات كتبها أحد وكلاء النيابة على حسابه الشخصي بموقع “فيسبوك”، وهي كلمات حصلت على تأييد العديد من زملاءه من وكلاء النيابة والعاملين في السلك القضائي.
الأمر المثير للاستغراب ليس دعوة القتل والتصفية الفورية، فقد سبق أن وجهتها جهات عديدة وأشخاص كثيرون، لكن المدهش أنها تأتي من وكيل نيابة، مهمته التحقق من الأدلة والمعلومات، وتحويلها إلى القضاء للنظر فيها، أي أن الدعوة التي يوجهها السيد وكيل النيابة تتعارض حتى مع مصلحته الشخصية المباشرة. فإذا كان يريد التصفية الفورية لمعارضي النظام، فكيف سيجد عملا يؤديه هو وزملاءه المؤيدين له؟ أو ربما سيغير لقب وظيفته ليتحول إلى “وكيل التصفية الفورية”؟
وقد سبق أحمد الزند، وزير العدل المثير للجدل، السيد وكيل النيابة وزملاءه، بقيامه بالتحريض على انتهاك حقوق الإنسان، ونسيان فكرة إعمال القانون، وحرض وزير الداخلية على ارتكاب أي جريمة تروق له في سبيل “الانتقام” ممن دبروا حادث اغتيال النائب العام، بل حذره من التحجج بعدم اكتمال التحريات اللازمة، التي هي من صميم عمل وزارتي الداخلية والعدل. ليصبح لقبه المناسب “وزير الانتقام” على وزن فيلم “أمير الانتقام” للفنان الراحل أنور وجدي.
أما “ضياء رشوان” نقيب الصحفيين السابق بعد خسارته الانتخابات، المفترض أن يكون دوره الدفاع عن حرية الرأي والحق في تداول المعلومات والشفافية، فقد كتب مقالا يؤيد فيه قانون الإرهاب الذي تريد السلطات المصرية إصداره، وعارضه جميع الصحفيين تقريبا، بسبب المادة التي تقضي بالحبس لمدة لا تقل عن سنتين، لكل من نشر أخبار أو بيانات تخالف البيانات التي يصدرها النظام.
قام الرجل بتبرير القانون باستخدام حيلة ساذجة للغاية، وهو نشر مواد القانون، والحديث عنه باعتباره قانون الإرهاب المصري المزمع إصداره، موجها رسالة لقناة الجزيرة ومنظمة العفو الدولية أن تنقذ مصر منه، لكنه يكشف في النهاية بألمعية أن هذه المواد هي لقانون الإرهاب القطري وليس المصري، وكأنه بذلك يوجه صفعة للمعارضين للقانون ويفحمهم، كما يتهمهم بشكل غير مباشر بأنهم خائنون للوطن.
ركاكة الفكرة تأتي من أن الرجل يتعامل بمنطق المؤامرة مع كل شيء، حتى إنه يتهم منظمة العفو الدولية ضمنا بالتآمر لصالح مصر، وهو تفكير ليس غريبا على إعلامي مصري، فقد سبقه الكثيرون لمثل هذه الاتهامات الهيستيرية، كما أن هذا السلوك ليس غريبا على ضياء رشوان، الذي طالب عشرات المرات بفرض “الأحكام العرفية” منذ ثورة يناير وحتى الآن، وهو يتوافق أيضا مع انتماءه الناصري، لكن الغريب أن هذا الشخص كان يأتمنه الصحفيون على حرياتهم وانتخبوه نقيبا لهم للدفاع عنهم ضد تغول السلطة، فإذا به يستحق عن جدارة لقب “نقيب كبت الحريات”.
وفي منتصف الشهر الماضي، كتب الدكتور أيمن سلامة، أستاذ القانون الدولي، مقالا بجريدة الأهرام، يدعو فيه الدولة إلى خرق الدستور وعدم الالتزام به أو بأي قوانين أو تشريعات إذا كانت ضد مصلحة البلاد (التي تقررها السلطة بالطبع) أي أنه يقول بصراحة إن عمله في مجال القانون لا قيمة له.
وجدنا كذلك الدكتور حاتم صلاح الدين، رئيس جامعة دمنهور، يهاجم الجامعات الأجنبية، لأنها تستهدف الإضرار بمصر، مؤكدا أنه سيمنع عقد أي اتفاقيات معها، رغم أن دوره المفترض هو العكس.
أما وزير السياحة، فأطلق تصريحا مشابها لما قاله وزير العدالة الانتقالية، مؤكدا أن الأمن القومي أهم من مليارات السياحة، وأنه مستعد للمكوث في بيته لعام أو عامين لو حدث هذا التعارض، دون حتى أن يفكر في مصير الملايين من العاملين في السياحة، الذين لا توجد لديهم رفاهية المكوث في البيت لهذه المدة التي يمتلكها الوزير.
للإنصاف، لم يكن هؤلاء الأشخاص رواد هذه الظاهرة، بل بدأها وعلى نحو كوميدي، المستشار “محمد أمين المهدي” الذي عين بعد الانقلاب وزيرا لما يسمى “العدالة الانتقالية” لكنه صرح في حوار صحفي بعد تعيينه بأن الوقت الحالي غير مناسب للعدالة الانتقالية، وأن تطبيقها حاليا مستحيل! إذن ماذا تفعل في موقعك يا سيادة المستشار؟ هل عينت في هذا المنصب للقضاء على العدالة الانتقالية؟ أم أنك في الحقيقة وزيرا للعدالة الغائبة؟
كما كان لنظام ما بعد الانقلاب السبق أيضا في اعتماد هذا النهج، عندما قرر تعيين المستشار “نبيل صليب” رئيسا للجنة العليا للانتخابات التي أشرفت على الاستفتاء على دستور 2014، رغم أن المستشار المذكور كان قد كتب مقالا في جريدة الأهرام يدعو صراحة إلى إلغاء الانتخابات من الأصل! ولذلك بدا اختيارا مثاليا لنظام الانقلاب ليقوم بكل ما يريد.
أما “صلاح سلام” عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي برر جرائم العسكر طوال عامين، فقال في حوار صحفي صراحة إن الوقت الحالي لا يناسب حقوق الإنسان، وإنما يجب مراعاة متطلبات الأمن القومي أولا، وأنه لن يكون سعيدا بحقوق الإنسان إذا كانت البلاد تنهار، وأن ما سماه “أمن مصر” فوق كل الحقوق، كما يرى أن الدولة لها الحق في اتخاذ الدولة كل التدابير لمكافحة “الإرهاب” وأن أمريكا نفسها سمحت بالتنصت، الذي هو ضد الحقوق الشخصية، في سبيل الحفاظ على أمنها القومي!
وتزداد الطرافة في تصريحات الرجل عندما نعرف أنه مسئول عن وحدة “سيناء” في المجلس القومي لحقوق الإنسان، التي تعتبر الأكثر تعرضا لانتهاكات حقوق الإنسان، وسقوط ضحايا مدنيين جراء القصف العشوائي لقوات الجيش، بالإضافة إلى الاعتقالات العشوائية والتعذيب الشديد لأهالي سيناء، ومع ذلك يؤكد في تصريح آخر أن تعامل السيسي مع الأحداث في سيناء فاق المتوقع ألف مرة. هنا يستحق الرجل لقب “عضو المجلس القومي لانتهاك حقوق الإنسان”.
يدرك هؤلاء جميعا أنهم لا ناقة لهم ولا جمل فيما يتقرر من سياسات وما يصدر من قرارات، وأنهم مجرد سكرتارية على أفضل تقدير لنظام أمني يبطش بكل من يبدي أي نوع من المعارضة، ولذلك لا يوجد لديهم أي مانع من القيام بأشياء تتناقض مع وظيفتهم أصلا، ويجدون من الجرأة أو الصفاقة ما يسمح لهم بالتصريح بذلك علنا.
هذه حصيلة لأجواء الجنون والهيستيريا المنتشرة في مصر، والتي جعلت أشد الدعوات شططا وشذوذا تأتي من أناس من المفترض أن وظيفتهم هي العكس تماما مما ينادون به،
ولذلك ليس من المستغرب أن نقرأ خبرا عن حريق نشب بإحدى المحافظات المصرية، ووصول عربات المطافئ بعد 3 ساعات كاملة من استدعائها، لكن الطريف أنها وصلت بدون مياه أصلا. وغالبا سيكون الرد أن الأمن القومي أهم من إطفاء الحرائق
تم نشر هذا المقال بتاريخ 8/18/2015