العالم العربيسياسةضفة ثالثة

الصراع على إدارة شؤون موت الفلسطيني

شكلت نكبة 1948 حدثا مفصليا في التاريخ والذاكرة الفلسطينية، اذ لم تؤد تلك الكارثة إلى قتل الفلسطينيين ماديا فحسب، وإنما اجتماعيا كذلك، ونشأ مفهوم “الشتات” نتيجة انتشار الشعب الفلسطيني في أصقاع الأرض، الأمر الذي أدى إلى ما يمكن تسميته بـ”القضاء على الجماعية الفلسطينية” كنتيجة طبيعية للوجود الاستعماري، الذي لا يقوم إلا على نفي الآخر.

ويعتبر الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي “إميل دوركهايم” أن النظام الاجتماعي الذي يعيش فيه الفرد يشكل العديد من الممارسات السلوكية ويتحكم بها، ويمتد ذلك حتى في طريقة المرض والموت، المستمدتين من النظام الاجتماعي العام. وبذلك تصبح دراسة أنماط الموت السائدة في مجتمع ما مؤشرا على فهم المجتمع نفسه، وهي المقاربة التي يعتمد عليها هذا الكتاب.

يذهب الكاتب إلى أن الوجود الاستعماري الصهيوني مكنه مما سماه “إدارة شؤون الموت الفلسطينية” واحتكاره لها، عن طريق تحديد طرق الموت، أو حتى حياة أشبه بالموت للفلسطينيين، وبالتالي ترتبط مسألة العودة لدى الفلسطينيين بـ “تحرير إدارة شؤون الموت الفلسطينية من قبضة الاحتكار الصهيونية لها” وتصبح المقاومة شكلا وممارسة لإعادة إنتاج الجماعية الفلسطينية المفقودة منذ النكبة، وإعادة إنتاج الفلسطيني لذاته الجماعية.

يتتبع الكاتب ثلاثة أشكال من المقاومة بحسب نوع الموت الناتج عنها للفلسطيني، والتي أصبحت الأكثر ارتباطا به: الضحية، الشهيد، الاستشهادي، والتي تزامنت مع ثلاثة أطوار تاريخية: طور الصدمة والبحث، الطور الوطني، طور المبدأ الشمولي.

يمتد الطور الأول منذ النكبة وحتى منتصف ستينيات القرن العشرين، وهي الفترة التي بدأ فيها تشكيل بنية “الضحية”، ويقول عنها المؤلف إنها شهدت غياب أي محاولة لتشكيل جماعية فلسطينية، نتيجة استمرار المجازر بحق الشعب الفلسطيني، وتعدد أشكال الموت الجماعي التي مارسها الاحتلال تجاه الجماعة الفلسطينية، وتشكيل هويات أخرى لتذويب الهوية الفلسطينية، وهو ما تمثل في إنشاء هيئات أممية تدير شؤونها في الشتات، والهوية المصرية والأردنية في قطاع غزة والضفة الغربية، والهوية الإسرائيلية في المناطق المحتلة عام 1948. فنتج عن ذلك عجز الفلسطينيين عن إدارة شؤون موتهم، وبالتالي إدارة شؤون حياتهم.

كان الهاجس الأساس للعاملين في الحقبة الوطنية الفلسطينية في ذلك الوقت ما سماه المؤلف “إثبات الحضور” والإعلان عن “أنهم لم يموتوا”، وهو ما تمثل في أعمال أدبية وفنية وشعرية، تعرف الفلسطينيين بوصفهم “جماعة حضور”.

كما أضحت صيانة الضحية وظيفة أساسية للنظام الاستعماري الصهيوني، عن طريق تكريس علاقته مع الفلسطيني من هذه الزاوية، إذ إن طلب الضحية الاعتراف به كـ “ضحية” يؤدي بالتبعية إلى الاعتراف بالمستعمر، وتمثل تجربة اللجوء والشتات والمناطق المحتلة في العقدين اللذين أعقبا النكبة هذا النمط من العلاقة، إذ أنشئت منظمة “الأونروا” لإدارة شؤون الفلسطينيين باعتبارهم “ضحايا”، بالتوازي مع إنشاء الحكم العسكري الاستعماري في المناطق المحتلة، كما حرص الاحتلال على تأسيس جهاز بيروقراطي يقوم على “صيانة الموت كجزء من إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني”.

كان السياق الاجتماعي التاريخي الذي نشأت فيه الضحية الفلسطينية هو صعود الدولة القطرية القومية في العالم العربي الإسلامي بعد الحرب العالمية الثانية، ولم تخرج الجماعية الفلسطينية من تلك الحالة إلا مع صعود شكل جديد للجماعة الفلسطينية في أواسط الستينيات، عندما أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية، لكن الأخيرة لم تستطع فرض ملكية شاملة تقليدية باعتبارها ممثلة الشعب الفلسطيني، إذ ليس هناك أرض يمتلكها المجتمع لتديرها المنظمة بالتبعية، فسعت المنظمة لتأسيس جهاز مادي بيروقراطي اعتبره الكاتب يهدف إلى العمل على إدارة شؤون الموت الفلسطيني من شقين: إعادة إنتاج المجتمع الفلسطيني ماديا وبيولوجيا واجتماعيا وثقافيا، ورسم مسارات الكفاح المسلح بوصفه طريقا للعودة. ومن هنا برزت منظومة الفدائي وطريقة موته المحتملة: الشهيد.

يفسر المؤلف معنى “الشهادة” بأنها انتزاع السيطرة من النظام الاستعماري على إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطيني، إذ ينتزع الشهيد السيطرة على موته هو كفرد ليمثل إمكانية الانتزاع الجماعي.

بينما يتميز الاستشهادي عن غيره من الأطوار، بأنه لا يحاول التحكم في إدارة شؤون الموت الجماعي الفلسطينية فحسب، بل يسعى إلى امتلاك إدارة شؤون الموت الجماعي للمستعمر ونظامه. وحمل هذا الطور بالأساس تنظيمات إسلامية ورثت كفاح منظمة التحرير، كمؤشر على انتهاء مرحلة العمل الوطني الفلسطيني وصعود العمل الإسلامي.

تم نشر هذا المقال بتاريخ

8/10/2015

الرابط الاصلي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى