انطلقت الصحف المصرية تحلل وتناقش أسباب الأزمة الداخلية التي تعيشها جماعة الإخوان المسلمين منذ أسابيع، والخاصة بالنزاع بين قيادتين ورؤيتين مختلفتين لإدارة الجماعة خلال الفترة المقبلة.
وبغض النظر عن التحليلات التي حاولت تقديم تفسيرات لما يحدث داخل الجماعة، إلا أن الأزمة كشفت كالعادة عن مستوى الرداءة والتلفيق الذي وصل إليه الإعلام المصري، ولعله من المفيد تذكير القائمين على الصحف المصرية بالسيناريوهات الخيالية التي دأبوا على نشرها خلال الفترة الماضية.
عرف المتابعون مثلا من خلال أزمة الإخوان المسلمين أن نائب المرشد العام للجماعة “محمود عزت” مازال متواجدا داخل مصر، هو والدكتور “محمود غزلان” عضو مكتب الإرشاد، وكذلك “عبد الرحمن البر” و”محمد طه وهدان”. إلا أن الصحف المصرية كان لها رأي آخر.
تنوعت الأماكن التي ادعت الصحف المصرية أن الدكتور محمود عزت يختبأ فيها، ما بين غزة إلى اليمن مرورا بقطر وتركيا وحتى لندن. لكنها تركزت بصفة أساسية على قطاع غزة، في إطار حملة التحريض الواسعة على حركة حماس من الإعلام المصرين والتي وصلت إلى حد الاحتفاء بالعدوان الإسرائيلي على القطاع عام 2014 ودعوة إسرائيل إلى دك القطاع وهزيمة المقاومة.
على سبيل المثال، نشرت جريدة “الوطن” تقريرا مطولا قالت إنه “من قلب غزة” يكشف عن اختباء عزت داخل القطاع تحت حراسة كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، بل وحددت الأماكن التي يتنقل داخلها بكل دقة وبثقة مطلقة، وقالت إنه يدير أعمال العنف من هناك، واستغربت نفي قيادات حماس لتواجد عزت في القطاع.
أما موقع “صدى البلد” فأكد أن جهاز المخابرات المصرية حدد موقع عزت في غزة، وأن حماس شددت عليه بعدم الخروج من المكان الذي يتواجد فيه حتى لا يتم رصده، لكن المخابرات المصرية ذات القدرات الأسطورية طبعا نجحت في رصد مكانه رغم كل الاحتياطات الأمنية.
أما التقرير الأكثر كوميدية، فكان ما نشرته جريدة “اليوم السابع” والذي لم يختلف كثيرا في مضمونه عما قالته كل من “الوطن” و”صدى البلد” لكن كان في تأكيده على أن الدكتور “أسامة ياسين” يساعد عزت في إدارة عمليات العنف ضد قوات الجيش والشرطة من غزة، وأن ياسين يشغل منصب مسئول التنظيم الخاص والجناح العسكري داخل الجماعة، ويشرف على معسكرات تدريب تضم الآلاف من شباب الجماعة وحركة حماس. ولم يمض يومان على هذا التقرير حتى تم القبض على أسامة ياسين داخل إحدى الشقق بالقاهرة الجديدة! والغريب أن نفس الجريدة نشرت تفاصيل خبر القبض على ياسين دون أن تقدم أي اعتذار عن الفبركة الرديئة التي قامت بها قبل يومين فقط.
سيناريو تواجد عزت في غزة لم يخفت مع مرور الوقت، وامتد حتى عام 2015، فنجد جريدة الوطن تعود لتتحدث عن نفس الموضوع في تقرير نشر منتصف يناير الماضي، قالت فيه إن “مصادر مقربة” من جماعة الإخوان كشفت لها أن عزت يقود مخططات العنف ونشر الفوضى من غزة بتفويض من التنظيم الدولي للإخوان قبل الذكرى الرابعة لثورة يناير.
هذا عن سيناريو غزة، أما عن اليمن فقامت بنشره مجلة “روز اليوسف” في نفس التوقيت الذي كانت تتحدث فيه الصحف الأخرى عن تواجده في غزة، حيث قالت إنه يعيش في اليمن داخل مزرعة اللواء “علي محسن الأحمر” قائد الفرقة الأولى المدرعة في الجيش اليمني، وأنه ذهب إلى هناك من غزة بعد تهديدات من الجيش المصري باقتحام القطاع للقبض عليه.
وانضمت ليبيا إلى قائمة الدول التي يقيم فيها عزت مؤخرا، في تقرير نشرته صحيفة “الوفد” أكدت فيه أنه التقى عدد من قادة الحركات المسلحة هناك للتجهيز لإثارة حالة من الفوضى بالشارع المصري خلال مظاهرات 28 نوفمبر 2014.
هذه مجرد أمثلة لما نشر في الصحف المصرية خلال العامين الماضيين في صحف أخرى مثل الصحف القومية الكبرى: الأهرام والأخبار والجمهورية ومجلة صباح الخير وغيرهم.
وها هي الأيام تكشف لنا بعد كل هذه القصص والحواديت أن عزت ما زال موجودا داخل مصر لم يبرحها. لكن الصحف تناست ما كتبته وعادت بكل صفاقة للحديث عن أزمة الإخوان، ونشرت أسباب عدم تمكن أجهزة الأمن من القبض عليه حتى الآن.
والمضحك أن جريدة الوطن التي قالت إنها “كشفت” من قلب غزة عن تواجد محمود عزت داخل القطاع، هي من نشرت تقريرا عن عزت بعد أزمة الإخوان الأخيرة لتؤكد أنه يدير أعمال العنف في مصر! لكنها حتى في هذه المرة لم تنس التحريض على حماس وقالت إنه ينسق مع الحركة لنشر الفوضى في البلاد. حتى إنها عادت في نفس التقرير وأكدت وجوده في غزة مرة أخرى! ومن الواضح أن الصدمة من وجوده داخل مصر أفقدتهم توازنهم.
التخريف الإعلامي لم يقتصر على نشر أخبار ملفقة عن أماكن اختفاء قادة الإخوان، بل تعدى ذلك إلى نشر تحليلات ثبت فشلها، منها على سبيل المثال التأكيد على أن محمود عزت يقود معسكر داخل الجماعة يهدف إلى التصعيد ضد النظام والتخطيط لعمليات عنف ضد الجيش والشرطة، بل ووصل الأمر إلى أن عدة صحف ومواقع بين عزت وجماعة “أنصار بيت المقدس” واتهمته بالتنسيق معها لقيادة العمليات ضد الدولة. وها هي الأزمة الأخيرة للإخوان تثبت العكس تماما، وأن عزت هو من يقود معسكر التهدئة والسلمية للحصول على مكاسب تساعد الجماعة على البقاء، مقابل القيادة الجديدة التي تتبنى التصعيد والرد على اعتداءات النظام وانتهاكاته بحق المتظاهرين.
وبما أن الإعلام المصري لا يتحدث من تلقاء نفسه، بل بنظرية “بتكتب ورايا يا أحمد” نستطيع القول إن انحدار الإعلام المصري ونشره هذه القصص الوهمية هو جزء من انحدار عام لأجهزة الأمن والمعلومات في مصر، تلك التي تقدم نفسها باعتبارها أجهزة “سيادية” خطيرة تمتلك من الأسرار ما لا يستطيع أحد معرفته. لكن اتضح أن مستواها لا يختلف كثيرا عن مستوى “الخبراء الاستراتيجيين” الذين ينتشرون على شاشات الفضائيات.
كتبت هذه المقالة بموقع عربي21 بتاريخ 20يوتيو، 2015