دكتاتورية الديمقراطيات الغربية.. بـ “الاستثناء”
يستكمل الفيلسوف الإيطالي جورجو أغامبين في كتابه “حالة الاستثناء” الذي ترجم مؤخرا إلى العربية، ما بدأه في كتاب “الإنسان الحرام؛ السيادة والحياة العارية” الصادر عام 1995، فهو ليس مجرد دراسة قانونية جافة، بل مزيج بين القانون والسياسة والتاريخ واللغة في طرح فلسفي مثيرٍ للاهتمام.
المتابع لأطروحات أغامبين يلاحظ أنها لا تتوقف عند الجانب القانوني والسياسي، بل تتعداها إلى مواضيع فلسفة الجمال والنقد الأدبي كما في كتابه “اللغة والموت”.
والمقصود بـ”حالة الاستثناء” التي يتحدث عنها الكتاب في عنوانه، العلاقة بين النظام القانوني وحالة الطوارئ التي يتم النص عليها في الدساتير والقوانين في الدول الغربية، وهي العلاقة التي شكل منها أغامبين مدخلا للإجابة عن السؤال الأساسي الذي يدور حوله الكتاب، والمتعلق بمفهوم السيادة في الدولة الحديثة ومن يملكها: الشعب أم الدولة، وكيف تكون العلاقة بين الإنسان الفرد والدولة في إطار حالة الاستثناء هذه التي تتحول مع مرور الوقت إلى حالة دائمة تقع ضمن بنية السياسة نفسها، مثلما حدث أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية من تطبيق دائم لحالة الاستثناء في الدول المتحاربة، مع استبدال الأزمة الاقتصادية بالأزمة الحربية.
يعرض الكاتب الذي يشغل الآن منصب أستاذ فلسفة الجمال بكلية العمارة في فينيسيا، إيطاليا، في البداية، أهم النظريات المتعلقة بفكرة السيادة وقوة القانون، خصوصاً أفكار الفيلسوف الألماني “كارل شميت” أحد أهم نقاد الفلسفة الليبرالية في القرن العشرين، وكذلك الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا”، فيتتبع نظرياتهما حول فكرة السيادة وقوة القانون، وإشكالية السياسة والدستور وما يرتبط بهما من قضية الحريات العامة.
كما يتناول آراء مختلفة حول حالة الاستثناء، بين من يدرجها ضمن النظام القانوني الوضعي، باعتبارها حقا طبيعيا للدولة للحفاظ على وجودها، ومن يعتبرها خارج هذا الإطار، أي كظاهرة سياسية بالأساس، أو كظاهرة تخرج في كل الأحوال عن النطاق القانوني.
وعلي الرغم من أن “أغامبين” قدم عدة نماذج تطبيقية لحالة الاستثناء، بدءا من النظم القانونية الرومانية القديمة، مرورا بقوانين الكنيسة الكاثوليكية، وحتى التجربتين النازية والفاشية في كل من ألمانيا وإيطاليا في القرن العشرين، فإن الحالة الأكثر ارتباطا بالأوضاع العربية كانت معتقل “غوانتانامو” بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والتي مثلت لحظة نموذجية لفرض حالة الاستثناء وتعليق العمل بالقانون من خلال واضعي القانون أنفسهم؛ ونفي حقوق الإنسان الأساسية عن السجناء داخل المعتقل. وينقل الكاتب عن الكاتبة الأميركية جوديث بتلر قولها “إن الحياة العارية تصل لأقصى درجات اللاتمايز في حالة معتقلي غوانتانامو”.
على هذا فقد عُرف أغامبين باعتباره واحدًا من ألد المعارضين لهذه الإجراءات، لدرجة تخليه عن منصب الأستاذية في جامعة نيويورك عام 2003، احتجاجا على سياسات جورج بوش، ورفضا لقرار الولايات المتحدة فرض نظام البصمة على الأجانب، وهو ما اعتبره أغامبين أشبه بسيطرة الإنسان على الحيوان.
وتطويرا للمقولات السائدة عن الشمولية، يوضح المؤلف أن الدول الديمقراطية أيضا تمارس أنواعا متعددة مما يمكن أن نطلق عليه “الشمولية الحديثة”، تقوم على خلق حالة طوارئ دائمة لمواجهة من تعتبرهم الدولة أعداء لها. وفي هذا الإطار، يناقش أغامبين خلفيات حالة الاستثناء في دول غربية تصنف باعتبارها ديمقراطية، وهي إنجلترا وفرنسا وسويسرا والولايات المتحدة الأميركية.
لا يتعلق الأمر إذن، وفقا لأغامبين، بقصور في النص التشريعي ينبغي على القاضي تلافيه، بل إنها تتعلق في الواقع، بتعليق النظام القانوني القائم بهدف الحفاظ على وجوده. فحالة الاستثناء ليست وسيلة لتلافي ثغرة قانونية، بل تكمن الثغرة الحقيقية في الصلة بين القانون والواقع، ويتم رأب هذا الصدع بواسطة “حالة الاستثناء”، أي بخلق حيز يعلق فيه تطبيق القانون، مع بقائه في الوقت نفسه ساريا على حاله أمام المواطنين ليبدو وكأن السلطة تقدسه وتريد الحفاظ عليه.
مثل هذا الوضع يضع القانون في “حالة الاستثناء” مع نفسه: القانون يعلق القانون. هذا الوضع المتناقض يفرغ النظام القانوني من أي مضمون إيجابي، ويجعله أشبه بـ”آلة القتل” التي تنظم استخدام العنف من قبل الدولة، وهو ما يمكن أن يؤدي في النهاية إلى “حرب أهلية قانونية”، بما يُتِيحُ التصفية الجسدية ليس فقط للخصوم السياسيين، بل لشرائح كاملة من المواطنين تعتبرهم السلطة، لسبب أو لآخر، غير قابلين للاندماج في النظام السياسي.
تم نشر هذا المقال بتاريخ
4/12/2015