في إعادة الاعتبار للقوات الجوية
وجدت المقولة التي تشكك في جدوى حسم القوات الجوية أية حرب حظاً من الانتشار، كما إمكانية استمرار القصف الجوي سنوات من دون تحقيق هزيمة بالعدو. لكن، بعد التطورات في العراق واليمن، أخيراً، يبدو أنها مقولة تحتاج إلى مزيد من المراجعة والتدقيق. وكما تشكّك بعضهم في جدوى القصف الجوي، سخر آخرون من التحالف الدولي الذي تم الإعلان عنه ضد تنظيم الدولة الإسلامية، داعش، في بدايته، وحكموا عليه بالفشل في أيامه الأولى، على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت واضحةً في كونه تحالفاً طويل الأمد، قد يمتد سنوات، يستهدف تحجيم التنظيم ومنعه من التمدد، وهو هدف يبدو واضحاً أنه يتحقق بثبات. فمنذ بداية الضربات الجوية، لم ينجح “داعش” في تحقيق أي تقدم لافت، بل يخسر الأراضي والمناطق باستمرار، وقد أجبر على اعتماد أساليب حرب العصابات والهجمات الخاطفة، التي لم يكن يعتمد عليها قبل ذلك، وهي أساليب تفقد فكرة “الدولة”، التي يقدمها، معناها وجدواها، ويجد صعوبات شتى في نقل مقاتليه وإمداداته اللوجستية.
لا ينكر كاتب هذه السطور جانباً صحيحاً في تلك المقولة، وهي ضرورة وجود قوات برية جاهزة للتدخل ودخول الأراضي التي ينسحب منها الخصم، نتيجة الضربات الجوية. لكن التطورات الأخيرة أثبتت أنه مهما كان مستوى هذه القوات البرية، فإنها تنجح في التغلب على خصمها المدرب وذي الكفاءة العالية في القتال، فقط بسبب توفير الدعم الجوي له. وأوضح مثال لذلك في العراق، فمستوى القوات العراقية ومليشيا الحشد الشعبي، وحتى قوات البشمركة الكردية، أقل بكثير من مستوى مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية بما لا يقاس، غير أن الطرفين لا يتوقفان عن انتزاع القرى والمدن من سطوة “داعش”، فيما كفاءتهم القتالية شبه منعدمة أمام كفاءة مقاتلي “داعش” الكبيرة. ومعركة تكريت مثال أوضح، في بدايتها، قررت إيران، عن طريق أذرعها، الممثلة في القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي، الاستغناء عن الدعم الجوي الأميركي، متصورين أنهم في طريقهم إلى تحقيق نصر حاسم، لكنهم لقوا هزيمة منكرة، وتكبدوا خسائر فادحة، دفعتهم إلى الاستنجاد بالدعم الأميركي الذي وجّه ضربات مركزة، أجبرت تنظيم الدولة على التراجع، لتتقدم القوات العراقية حتى وسط المدينة. وكان هذا السيناريو قد تم في معركة “كوباني”، في إسناد قوات حماية الشعب الكردية، وانتهى الأمر إلى النهاية نفسها، انسحاب مقاتلي داعش من المدينة ومحيطها، وتقدم الأكراد بعد تأمين الدعم الجوي لهم، وكان تقدم داعش في بداية المعركة قد أوشك على حسمها مبكراً.
في حرب يوليو/ تموز 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وحربي 2008 و2014 بين إسرائيل وحماس، لم يستطع القصف الجوي الوحشي والمستمر تغيير ميزان الحرب، لكن هذه النتيجة جاءت بسبب إقامة كل من حماس وحزب الله شبكة متكاملة تحت الأرض تحمي مقاتليهما من القصف الجوي، وتحمي ترسانتهما الصاروخية. وهذا الأمر غير متحقق في حالة تنظيم الدولة الذي يعتمد على نظرية التمدد وكسب الأرض وإقامة دولة بكل ما تحتويه من مؤسسات وخدمات، وهو ما يبدو صعباً للغاية، في ظل أجواء مكشوفة للطائرات المعادية.
وثمة بعد آخر، لا يجب إغفاله، هو العامل النفسي. ففي1991، انهالت القذائف والضربات على القوات العراقية المحتلة الكويت شهراً، أدت، في النهاية، إلى تدمير معنويات العراقيين وانهيارها بشكل شبه كامل. وعندما بدأ الغزو البري، وجدت القوات المحاربة طريقها سهلاً، ومهمتها تكاد تكون متحققة، بعد أن أدرك العراقيون أنهم أمام قوة لا قبل لهم بها، وأن هزيمتهم مسألة وقت. وفي اليمن، يبدو مبكراً الحديث عن جدوى الضربات الجوية ومدى نجاحها في تحقيق أهدافها، حيث تتوقف النتائج على قوة الضربات ودقتها، وعلى مستوى التنسيق بين القوات الجوية والمقاتلين الموالين للرئيس عبد ربه منصور هادي.
يمكن، إذن، تعديل مقولة إن القصف الجوي لا يحسم حرباً إلى أن الضربات الجوية تساهم، بشكل كبير، في حسم الحرب، فهي تنقل الخصم من حالة الدفاع والمبادرة، إلى الدفاع والحصار، وأن القوات البرية، الموالية للطرف الذي يمتلك سيطرة على الجو، ستنتصر، طالما كان الدعم الجوي لها قوياً ومستمراً، مهما كانت كفاءتها القتالية. فما زالت القوات الجوية تثبت أنها عماد الحرب الحديثة بلا منازع.
وبالعودة إلى كتابات الفريق سعد الشاذلي، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، ما فعلته القوات الجوية الإسرائيلية بنظيرتها المصرية، كان فقط لأن الأخيرة خرجت من مظلة الدفاع الجوي يوم 14 أكتوبر لتطوير الهجوم بضغط من أنور السادات. وكان الشاذلي يحث العرب، سنوات، على ضرورة امتلاك قوة جوية، وللأسف، لم يستمع أحد إليه. وإلى الآن، نسخر من تفوق الأعداء علينا، ويحاول بعضهم إقناع نفسه بأننا الأقوى والأفضل، لكن سوء الحظ والإمكانات تقف ضدنا، بينما يقول آخرون إن العدو لا يحقق أهدافه من الأصل، و”الصمود” يكفينا، وهي فكرة لا تبعد كثيراً عن مقولة “التمثيل المشرف” للمنتخبات العربية في نهائيات كأس العالم.