سياسةمصرملحق جيل

من رجل المستحيل إلى رجل السيسي

نفسي أطلع ضابط مخابرات”. ربما كانت هذه أكثر الإجابات انتشارا على ألسنة متابعي سلسلة “رجل المستحيل”، والتي حققت انتشارا قياسيا في مصر والوطن العربي، خاصة خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، عندما يسألهم أحد عن أحلامهم في المستقبل. فقد تحولت شخصية “أدهم صبري” إلى قدوة وحلم للشباب العربي في ذلك الوقت.

تعرفت على السلسلة لأول مرة في المرحلة الابتدائية، ومن يومها صحبتني في جميع المراحل الدراسية، قرأت كل أعدادها تقريبا، هي والسلاسل الأخرى المنتمية لنفس العالم، ولم أفوت منها حرفا بعد ذلك.

وعندما أعلن مؤلف السلسلة أن “أدهم صبري” بطل السلسلة شخصية حقيقية تحمل أول حرف من الاسمين “أ.ص” كدت أطير فرحا، وأنا أرى أن كل ما قرأته لم يكن وليد الخيال فحسب، بل له ظل من الحقيقة.

كاتب السلسلة هو الدكتور نبيل فاروق، الذي ظل يعرف لسنوات طويلة باعتباره كاتب الشباب الأول في الوطن العربي. لكن ماذا يعني هذا اللقب؟

المفترض فيمن يحمل هذا اللقب أن يكون مناصرا لقضايا الشباب، يتحدث عن أحلامهم وطموحاتهم، أفكارهم ومشاكلهم، يدافع عنهم في مواجهة أي محاولات للتشويه. لكن نبيل فاروق فعل العكس تماما.

منذ بداية كتاباته امتلأت أعداد “رجل المستحيل” بعبارات تأييد النظام الحاكم والرئيس المخلوع مبارك في ذلك الوقت، ولا يمكن حصر المواقف التي حشر فيها الرجل مبارك حشرا في سياق القصة، ليبدو بمظهر الرجل الوطني عاشق مصر المستعد للتضحية وبذل الغالي والنفيس من أجلها.

كما تحول جهاز المخابرات العامة المصرية بفضل هذه السلسلة إلى أسطورة في مخيلة الشباب، وأنا منهم، وعندما دخلت مرحلة المنتديات وجدت العديد من متابعي السلسلة يفصحون عن أمنية حياتهم، وهي الالتحاق بهذا الجهاز أو المشاركة في إحدى عملياته.

كان هذا بالطبع قبل اندلاع ثورة يناير، بعدها اكتشفنا جميعا أن عمليات جهاز المخابرات الأسطورية غير موجودة، أو هي موجهة في معظمها للداخل وليس الخارج، ضد شعب مصر وشبابه وليس لصالحه، وأن إجهاض ثورة يناير وقتلها سيكون إحدى منجزات هذا الجهاز الذي لا بد سيفتخر بها، وأن مدير الجهاز كان أقرب الأصدقاء إلى إسرائيل، وأن تصدير الغاز لإسرائيل سببه الرئيس توفير “مصاريف” للمخابرات العامة، وفقا لشهادة عمر سليمان نفسه.

ضمن اكتشافات ما بعد الثورة أيضا، اعتراف المؤلف نفسه بأن سلسلة رجل المستحيل كانت تكتب بالتنسيق مع جهاز المخابرات نفسه، الذي اعتبرها إحدى وسائل الدعاية له، وقال أيضا أن الجهاز كان يتدخل للإضافة أو الحذف أو التعديل في القصص التي كنا نقرأها كما يشاء.

أما نبيل فاروق نفسه، فشهدت كتاباته تحولات عنيفة عبر ثلاث مراحل، كانت الأولي تأييدا غير مسبوق للنظام، والثانية كانت تحوله إلى معارضة النظام خلال “هوجة” المعارضة التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك، لكن يكفي القول إنها كانت معارضة من نوع “إبراهيم عيسى” وكفى بها تشبيها. كما كانت تمتلئ بكيل المديح والمغازلة لجماعة الإخوان المسلمين، باعتبارها قوة المعارضة الرئيسية، وهي نفس مفردات الخطاب “العيساوي”.

المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي التي ما زال مستمرا فيها حتى الآن، هي بنفسها النسخة الأخيرة من إبراهيم عيسى: تصفيق وتهليل للقتلة والسفاحين، وتأييد رئيس قتل آلاف من الشباب واصطف العواجيز وكبار السن في طوابير لانتخابه، واتهام الشباب بالخنوع والجهل وعدم الانتماء والوطنية، والهجوم على الكيانات الشبابية مثل “الأولتراس” واتهامهم بالانتماء لجماعة الإخوان المسلمين. كل هذا من المفترض أنه يأتي من كاتب للشباب.

اضطررت آسفا للدخول إلى صفحة مقالاته التي ينشرها في إحدى الصحف اليومية لقراءتها، حتى أكون على اطلاع بآخر “إبداعاته” وعسى أن تكون الدماء المراقة قد حملته على تغيير آرائه، لكني وجدته كما هو لم يتغير. حتى إن مقالاته تحولت إلى خطب إنشائية بائسة من عينة إذاعة صوت العرب. مع تطبيل دائم للعسكر والشرطة وأركان الدولة القديمة التي قدم نفسه معارضا لها في أواخر سنواتها.

هذا الفتور تجاه ما يكتبه نبيل فاروق هو عكس ما كان عليه الحال قبل سنوات، عندما كنا نبحث عن أي حرف يكتبه، ونلاحق أي إصدارات أو كتابات، سواء عبر الكتب المطبوعة أو عبر شبكة الإنترنت.

في مقالاته، يهاجم نبيل فاروق، الربيع العربي الذي صنعه الشباب الذين يكتب لهم، ويصفه بـ”المؤامرة”، ويروج لرواية الشيخة ماجدة وتوفيق عكاشة وعمر سليمان عن أحداث الثورة باعتبارها مخطط لاقتحام السجون وحرق الأقسام لإسقاط الدولة، لولا أن حفظ الله البلاد وبقيت وزارة الداخلية! ولم لا؟ أليس عمر سليمان هو من صنعه كاتبا، لا بد من رد الجميل بترديد روايات الرجل بعد رحيله.

وفي ذكري ثورة الخامس والعشرين من يناير، يتجاهل فاروق الثورة، ويهنئ الشرطة بعيدها، مع وصلات ردح من النوع “العكاشي” الفاخر ضد قطر وتركيا وأركان المؤامرات الكونية الأخرى ضد “ثورة 30 يونيو”، التي قام بها “مخلص” وفقا له، وهو السيسي بالطبع.

“سيادة الرئيس.. أنا بك، وبفكرك وطموحك ووطنيتك، منبهر” هكذا يصف نبيل فاروق السيسي بعد حضوره إحدى اللقاءات معه، وكالعادة لم ينس تشبيهه بجمال عبد الناصر، النغمة المعتادة للإعلاميين والصحافيين منذ انقلاب 3 يوليو، ولولا الملامة لزعم أن السيسي هو رجل المستحيل الحقيقي شخصيا.

أما الوطنية عند نبيل فاروق، فهي وضع قائمة من المرشحين لضمان وصول “أعداء الوطن” إلى مجلس الشعب، وهي بالطبع قائمة ضابط المخابرات السابق “سامح سيف اليزل” المسماة “في حب مصر”.

وفي مقال آخر، يدعو نبيل فاروق إلى القبول بحكم براءة مبارك، استنادا إلى مبدأ احترام ما سماها “سيادة القانون”. ويري في مقال ثان أن منفذي عملية “شارل إيبدو” على صلة أكيدة بالإخوان، ومقال ثالث يؤكد أن تسريبات السيسي ملفقة تسعى للنيل منه ومن شعبيته الكاسحة الساحقة الماحقة.. إلخ.

أما الشباب الذين من المفترض أنه يتوجه إليهم بخطابه، فهم “صاروا كتلة وحشية من الديكتاتورية المطلقة، يعادون كل شيء وأي شيء، ويرفضون كل شيء وأي شيء”، وكل الكيانات الشبابية لديه إما هي ساذجة أو مضحوك عليها من الإخوان “الإرهابيين”. هكذا يرى نبيل فاروق الشباب الذين صنعوا مجده وحقق ما لم يحلم به.

اكتفى الشباب برد بليغ علي هذا الخطاب البائس، فقد تجاهلوه تماما. لم أجد أي تفاعل مع هذه الكتابات إلا نادرا، معظم هذه المقالات لم يقرأها سوى بضع أشخاص يعدون على أصابع اليدين، وأحيانا أصابع اليد الواحدة. مقالات كاملة منها لم تعجب أي شخص أو حتى يعلق عليها. وأحيانا يرد عليه أحد الشباب بتعليق يحصل على إعجاب أشخاص أكثر من المقال نفسه. قارن هذا بمقالات الكتاب الشباب التي تعبر عنهم فعلا، ستجد أن مقالا واحدا منها يقرأه الآلاف.

كان نبيل فاروق قد أعلن مرارا، وعلى فترات متباعدة عن بدء تحويل سلسلة “رجل المستحيل” إلى فيلم سينمائي، وأكد أن هناك نجما شابا كان غير معروف في ذلك الوقت، اسمه “أحمد عز” سيقوم بأداء الدور. ومرت السنوات دون أن يرى هذا الفيلم النور. وهو ما أحبط المتابعين وقتها.

تمر السنوات، وأقرأ هذه الأيام خبرا بفتور شديد عن تحويل “رجل المستحيل” إلى مسلسل إذاعي، لم أهتم حتى بقراءة نص الخبر، فلم تعد هذه السلسلة تعني لي أي شيء، ولم تعد تربطني بها أي ذكريات جيدة، سواء عن أبطالها وما يمثلونه، أو مؤلفها نفسه ونهايته المؤسفة.

هذا هو جزاءك يا نبيل يا فاروق، وهذا هو عقاب أمثالك.. سنتجاهلك تماما وكأنك لم تعد موجودا، ولتمرح كما شئت مع رفاقك من الحالمين بالأساطير الناصرية العفنة، والهاتفين: الشعب والشرطة إيد واحدة. فلم يعد يثير فينا هذا الهتاف إلا الغثيان. ولتخبرهم بقصصك وحكاياتك ليصدقوها كما تشاؤون. فسنذكرك دائما بلقب لم يحصل عليه أحد من قبل: فأنت كاتب الشباب الذي هلل لقاتلهم.

_________
تم نشره بقسم ملحق جيل بموقع العربي الجديد بتاريخ    3/4/2015

الرابط الاصلي

اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى