مع الثورات المضادة
أطل على شاشة قناة دريم المصرية أحمد قذاف الدم، ابن عم معمر القذافي، وأحد أهم أركان نظامه، والمقيم في مصر منذ اندلاع الثورة الليبية، مع المذيع وائل الإبراشي، ليكيل الهجوم للثورة الليبية والثوار ويتهمها بتسليم ليبيا للغرب (على اعتبار أن القذافي كان قائداً لحركة التحرر العالمية). وليس غريبا على قناة مصرية استضافة مثل هذه الشخصيات، فقد قطع الإعلام المصري عهدا على نفسه بدعم رموز الثورة المضادة في البلدان كافة. وبشيء من التجاوز، يمكننا الإشادة به، كونه أعاد إلى مصر ما يسمى “دورها الإقليمي المفقود”، لكنه، هذه المرة، يأتي في الاتجاه المعاكس تماماً.
ولا تبدو استضافة قذاف الدم بالذات مستغربة، فللرجل أيادٍ “بيضاء” على صحافيين وإعلاميين مصريين كثيرين، وطالما شهدت حفلاته التي كان يقيمها بانتظام، قبل الثورة، حضور عشرات منهم، لينهلوا من فيض “حكمته”، ونبع رجاحته الصافي. ولم يأل الإعلام المصري جهدا في استضافة كل الرموز المعادية للثورة والحرية والديمقراطية وتداول السلطة، يكفي أن المرشح الرئاسي الخاسر، أحمد شفيق، والمتهم في قضايا فساد، لم يكن يتوقف عن الظهور في الفضائيات المصرية منذ عهد مرسي، إما بمداخلات تليفونية، أو بلقاءات كاملة يسافر من أجلها المذيعون إلى أبوظبي، حيث يقيم.
وشهدت دبي لقاءات وحوارات مطولة قامت بها الفضائيات المصرية مع ضاحي خلفان، رئيس شرطتها، وهو منصب لا يؤهل صاحبه للحديث في أي أمور سياسية، لكن القنوات المصرية اكتشفت فيه محللاً سياسياً فذاً، وصارت تسأله الرأي والمشورة حول قضايا ثورات الربيع العربي ومستقبل الإسلاميين في الدول العربية والتحولات الجيوسياسية في المنطقة. فقط لعدائه الشديد للثورات العربية، ومهاجمته لها، بصورة شبه يومية، على حسابه في “تويتر”.
وبعد الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013، شمر الإعلام المصري عن ساعديه لإبراز قدراته ومهاراته في تقديم الخدمات المضادة للثورات لمن يريد، حتى أن صحيفة اليوم السابع اختصرت الثورة السورية في جملة واحدة، هي (بسالة من الجيش العربي السوري في وجه الإرهاب المؤيد من النظام التركي)، لمجرد الكيد لأردوغان والهجوم عليه.
بالعودة إلى ليبيا، منذ ظهور المدعو خليفة حفتر، الذي نصب نفسه لواء، على الرغم من أن
أعلى رتبة في جيش القذافي كانت العقيد، انحاز الإعلام المصري بشدة إليه، وسانده في معاركه ضد قوات “فجر ليبيا”، وحرصت الصحف والفضائيات على الحصول على تصريحات منتظمة منه، هو وأعوانه، باعتبارهم قادة الجيش الليبي الشرعي ضد “الإرهاب”، واعتبره بعضهم المعادل الموضوعي للسيسي. وقدمت قنوات مصرية بثا مباشرا لجلسات برلمان “طبرق” باعتباره الكيان الشرعي الوحيد الممثل لليبيا، على الرغم من صدور حكم المحكمة الدستورية بحله.
ومع مرور الوقت، بدأ إعلاميون مصريون يدعون إلى التدخل العسكري في ليبيا، لمحاربة من سموهم “المتطرفين” والجماعات الإرهابية فيها، لكن هذه الدعوة المبكرة لم تكن مقنعة أبداً، بسبب عدم وجود داع ملح وحقيقي، يستدعي التدخل فيها، إلا مساندة حفتر وضرب الثورة الليبية. فكان لا بد من إيجاد سبب قوي للتدخل هناك. وبالتالي، ظهرت خرافة ما يسمي “الجيش المصري الحر” في أدبيات التغطية الإعلامية المصرية أواسط العام 2014، وهي قصة طويلة أخرى.
لم تحقق دعوات الإعلام المصري إلى اعتبار حفتر المعادل الموضوعي للسيسي نجاحا لأسباب كثيرة، منها طبيعة حفتر الشخصية التي تستدعي السخرية والاستهزاء، أكثر مما تدعو إلى التعامل معه بجدية واهتمام، ومنها تصريحاته المضحكة التي حاول فيها تكرار كلام السيسي بالحرف، عن ضرورة “تفويض” الشعب الليبي له لمحاربة “الإرهاب”، وأنه لا يطمح لمجد شخصي، ولن يرشح نفسه للرئاسة (امنعوا الضحك)، وأخيراً عجزه التام وفشله المتكرر في السيطرة على أي من المدن التي أعلن الحرب فيها، على الرغم من الدعم الهائل الذي يقدمه معادله “شبه الموضوعي” السيسي وحلفاؤه. وقد دعا هذا الفشل إعلاميين مصريين إلى البحث عن شخصيات أخرى، لعلهم يجدون غايتهم، ثم وجدوا اسما آخر، هو الباجي القائد السبسي. ولأسباب مفهومة احتفى الإعلام المصري بفوزه في الانتخابات الرئاسية في تونس، على الرغم من أن منافسه لا ينتمي إلى الإخوان المسلمين، ولا أي من التيارات الإسلامية. ولكن، لأن السبسي ينتمي للنظام القديم فقط.
لم تتهم الصحف والقنوات المصرية السبسي بـ “التكويش” على جميع السلطات في بلاده، بعد فوز حزبه في الانتخابات التشريعية، وهذه تهمة طالما أشبعوا بها جماعة الإخوان المسلمين في مصر نقداً بعد ترشيح هؤلاء محمد مرسي للرئاسة. ولم يخيب السبسي ظن الإعلام المصري، فأطلق تصريحات مشابهة لما يقوله السيسي عن محاربة الإرهاب، وما إلى هذا الحديث المعلب سابق التجهيز. لكن، مع مرور الوقت، خيب آمال هذا الإعلام الذي كان يتوقع إجراءات مشابهة لما حدث في مصر بعد الانقلاب، مثل اعتقال قادة حركة النهضة، وإغلاق المجال السياسي في بلاده، مثلما فعل السيسي في مصر، وهذا مطلب طالب به حزب التجمع (اليساري) في مصر في بيان رسمي. مع الأسف، لم يقم بشيء من ذلك، حتى الآن، فقد من الإعلام المصري الاهتمام به تدريجيا، انتظارا لتقديمه أوراق اعتماده في نادي الدم والطغيان العربي. انتظار نتمنى أن يكون مثل انتظار غودو.