“والآن.. هل كان المتظاهرون على حق بالفعل، عندما رفعوا لافتاتهم، تلك التي تطالب بإسقاط الإعلام وتطهيره، باعتباره جزءاً من نظام مبارك، وهل سقط هذا النظام الإعلامي مع سقوط النظام السياسي، أم نجح في تبديل مواقعه، والتعامل مع الواقع الجديد، بوجوه مختلفة، وأقنعة جديدة؟”
كانت هذه نهاية التعليق الصوتي للفيلم الوثائقي “صناعة الكذب” الذي أذيع عند حلول الذكرى الأولى لثورة يناير عام 2012، وهو فيلم يتحدث عن الحرب الإعلامية التي أقامها إعلام نظام مبارك في محاولات لتشويه الثورة وتضليل الرأي العام، عبر أدوات إعلامية محددة، مع تحليل السياق الذي جاء فيه استخدام كل أداة من تلك الأدوات، عبر شهادات حية من عدد من العاملين في قطاع التلفزيون الرسمي وعدد من رؤساء تحرير الصحف القومية. كما يوثق الفيلم الانتهاكات التي تعرض لها عدد من القنوات الفضائية.
شاركتُ في عملية إنتاج هذا الفيلم باعتباري جزءاً من فريق العمل، وكنت مختصا في البحث والإعداد، والمشاركة في وضع السيناريو النهائي له وكتابة التعليق الصوتي.
نعود إلى نهاية الفيلم، عندما تساءلنا عمّا إذا كان الإعلام قد استوعب الدرس من الفضيحة المدوية التي تعرض لها بعد نجاح الثورة، أم أنه قرر المهادنة فقط حتى تمر العاصفة ليعود مرة أخرى من جديد.
والآن، قبل حلول الذكرى الرابعة لثورة يناير، لا أظن أننا بحاجة إلى الإجابة عن هذا السؤال أو حتى مناقشته، فكل شيء “انكشفن وبان”، كما قال الفنان “عبد المنعم مدبولي” في مسرحية “ريا وسكينة”. فحتى النظام السياسي اتضح أنه لم يسقط، بل تهاوت قشرته الخارجية فقط، وحصل جميع رموزه على البراءة أمام المحاكم. وسط سيطرة كاملة من الثورة المضادة على المشهد الإعلامي، وتطويعها لخدمة مندوب الدولة الجديد في حكم البلاد: السيسي.
صناعة الكذب.. للأمام در
لمعرفة كيف حدث ذلك، لا بد من العودة سنوات قليلة إلى الوراء، وتحديدا بعد تنحي مبارك مباشرة.
فقد كشفت ثورة الخامس والعشرين من يناير التضليل الإعلامي الذي كان يمارسه الإعلام المصري بشقيه الرسمي والخاص. ما أدى إلى اختفاء عدد كبير من العاملين في مجال الإعلام، بعد نجاح الثورة مباشرة، بعدما تبين قيامهم ببث أخبار مغلوطة لتشويه الثورة. لكن وبعد عدة أشهر من نجاحها، اعتمد الكثير منهم على ضعف ذاكرة الجماهير للعودة مرة أخرى لتصدر المشهد من جديد.
وإذا كان الإعلام الرسمي هو القوة الرئيسية التي اعتمد عليها النظام لضرب ثورة يناير، فإن دولة مبارك ما لبثت أن أدركت فشل الإعلام الرسمي وانصراف الجماهير عنه لافتقاده المصداقية، فبدأت في الاعتماد على شبكة جديدة من الإعلام الخاص الذي يؤثر في الجماهير.
وهكذا وجد المصريون أنفسهم أمام طوفان من الصحف والقنوات الجديدة التي يتم إنشاؤها عقب الثورة، ظاهرها هو الانحياز للثورة والانفتاح على الحريات، لكن باطنها هو إعادة تقديم نفس الوجوه القديمة بطريقة جديدة.
وتعتبر قناة (سي بي سي) أبرز نتيجة لتلك الاستراتيجية، فقد بدأت بميزانية تتجاوز مئات الملايين من الجنيهات، وقامت بحملة إعلانية ضخمة غير مسبوقة في شوارع القاهرة والمحافظات للترويج للقناة قبل بدء البث، وضمت القناة وجوها إعلامية معروفة بانحيازها لنظام مبارك وعدائها لثورة يناير، مثل (لميس الحديدي) و(خيري رمضان) الذي هاجم الثورة علنا، وقبل ذلك هاجم الشاب (خالد سعيد) أحد ضحايا عنف الشرطة المصرية أثناء فترة حكم مبارك، والذي اعتبرت حادثة وفاته أحد المحفزات المباشرة لقيام ثورة يناير.
كما شهدت تلك الفترة أيضا عودة المذيع (عمرو أديب) إلى تقديم برنامجه على قناة (أوربت) بعد توقف دام عدة أشهر، كما عاد المذيع “تامر أمين” إلى تقديم برنامج على قناة “روتانا مصرية”.
إضافة إلى ذلك، ظهرت قنوات إعلامية وصحف جديدة مثل (قناة التحرير- قناة النهار- جريدة الوطن- قناة صدى البلد) وغيرها، حتى إن “صدى البلد” احتكرت بث قضية مبارك، وضغطت بقوة باتجاه البراءة واحتفلت بها مع مبارك نفسه.
متحولون
هذا عن الإعلام المعارض للثورة بطبيعته، أما عن الآخرين، فلا أستطيع أن أمنع نفسي من الضحك على سذاجتنا المفرطة، فقد استضفنا في فيلم “صناعة الكذب” أشخاصا من المفترض أنهم يمثلون الثورة، وكانوا في طليعة المؤمنين والمبشرين بها، بعد أن هاجموا نظام مبارك بضراوة، إلا أنهم سرعان ما تحولوا مائة وثمانين درجة، وتحولوا إلى مسوخ مشوهة تردد نفس خطاب الكراهية والتحريض المقيت، وتؤيد المجازر التي ارتكبتها السلطة ضد معارضيها بعد انقلاب الثالث من يوليو.
محمود سعد، أبرز هؤلاء “المتحولين”، فبعدما ترك العمل في برنامج “مصر النهاردة” احتجاجا على سياسات الإعلام المصري تجاه ثورة يناير، وبعد أن ظهر في الفيلم ممثلا للإعلاميين الثوار، ضد مذيع البرنامج الآخر “تامر أمين” فإذا به لا يخجل من إعلان تأييده الصريح للانقلاب، مروجا الشائعة المضحكة التي نشرها بعض السذج، والتي نسبت لشبكة “سي إن إن” الأميركية أنها قالت إن المتظاهرين في الثلاثين من يونيو بلغت أعدادهم 33 مليونا. كما أنه يدافع بشدة عن نظام ما بعد الانقلاب وقائده عبد الفتاح السيسي، في وصلات مطولة في برنامجه على قناة “النهار”، وأصبح مادة خصبة للسخرية من تناقض حديثه عن الأزمات المعيشية التي واجهها المواطن في عهد مرسي والسيسي، فبعدما كان يهاجم الأول بضراوة، ويحمله مسؤولية أي تقصير أو فشل يحدث، انقلب مدافعا شرسا عن السيسي في نفس القضايا، وحمل الشعب المسؤولية وليس النظام.
ثاني هذه الوجوه هي “أماني الخياط”، التي ظهرت في الفيلم مهاجمة أكاذيب التلفزيون المصري وتحريضه على الثوار، لكنها تحولت إلى أحد أبرز رموز الإعلام “العكاشي”، الذي يمزج بين خطاب التحريض والمؤامرات الكونية التي يحيكها العالم ضد مصر. ولعل قصة طردها من قناة “أون تي في” بسبب تطاولها على الشعب المغربي خير دليل على المستوى الذي وصلت إليه.
يكفي أن نقول إن حلقتها الأخيرة من برنامجها على قناة “القاهرة والناس” خصصتها لتلقي “بلاغات” مشاهديها عن أماكن تجمع السوريين والفلسطينيين في مصر!
ثالث الوجوه هي المذيعة “بثينة كامل”، واحدة من أشرس معارضي مبارك والمجلس العسكري من بعده، هتفت مراراً “يسقط يسقط حكم العسكر” حتى إن بعضهم فكر في تحرير توكيلات لها للترشح إلى رئاسة الجمهورية، باعتبارها نموذجا مشرفا للمرأة المصرية المناضلة. لكن “المناضلة” لم تتردد في تأييد مذابح العسكر منذ الثالث من يوليو، ودعم زعيمهم السيسي في سباق الرئاسة، كما دخلت في وصلة من الهجوم الرخيص ضد الناشط السياسي علاء عبد الفتاح ووالده الراحل أحمد سيف الإسلام حمد، بعدما عيّرته بالتعذيب الذي تعرض له أثناء اعتقاله في شبابه.
أما ياسر عبد العزيز، فشخص يقدم نفسه باعتباره خبيرا إعلاميا، بالإضافة إلى عدد من الوظائف السابقة التي تصيبك بـ”الخضة” من كثرتها. هو رابع هذه الوجوه، استضفناه في الفيلم لتحليل سياسات الإعلام المصري، وقال بالنص: “إن وسائل الإعلام المصرية مارست كل أنواع وأنماط الانحياز التي شخصتها أكاديميات الإعلام عبر العصور، لكنها مارستها بشكل من عدم الإجادة وعدم المهنية، وهي في هذا ارتكبت جرائم إعلامية مكتملة الأركان”.
لكننا وجدنا “الخبير الإعلامي” يؤيد إغلاق قنوات “الجزيرة” وغيرها من وسائل الإعلام التي لم تكن على هوى سلطة الانقلاب، مقدما مبررات مضحكة في ذلك، وتنطبق على وسائل الإعلام المؤيدة للانقلاب أكثر بكثير من انطباقها على غيرها.
أما فيما يخص رأيه في السيسي نفسه، الذي مدح الإعلام المصري رغم كافة جرائمه وتحريضه، فقد تحدث عنه عدة مرات مكيلا له المديح، وأكد في مقال له نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي أنه “وضع أعداءه الخارجيين في مواقف صعبة جداً، وأرهق خصومه ومناوئيه والمعولين على خسارته إرهاقاً كبيراً، بحيث أمكنه التأثير في سلوكهم، وتعديله، بما يخدم رؤيته للمصلحة الوطنية المصرية” آه والله.
كان هذا نموذجا لواحد من الأفلام الوثائقية التي حاولت أن تؤرخ لثورة يناير، أما باقي الأفلام، فسنفاجأ بضيوف من نوعية “مصطفى بكري – محمد مصطفى شردي – علاء عبد المنعم، أحمد موسى”، وغيرهم، كل هؤلاء ظهروا على الشاشات في وثائقيات الثورة للحديث باسمها ومهاجمة عهد المخلوع. وبالتالي يحق لنا القول إنه لم ينجح أحد تقريبا في تأريخ ثورة يناير، لأننا اكتشفنا أن معظم من كنا نظنهم منّا أصبحوا أنصارا للجلادين. وأننا كنا مخترقين بالعشرات من الكاذبين والأفّاقين. وأظن أن هذا لا بد أن يقودنا إلى محاولة التأريخ ليناير من جديد. لكنها محاولة ستظل حبيسة الأدراج ولن تظهر للنور حاليا، حتى لا يتعرض صاحبها لأي مضايقات قد يسببها تناوله لثورة في بلد يدعي نظام الحكم فيها أنه ابنها، بينما يحرق كل من ينتمي إليها ويحرص على إسكاته إلى الأبد.
____
تم نشره بقسم ملحق جيل بموقع العربي الجديد بتاريخ 1/22/2015