بعد نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير، شاركت في صناعة فيلم وثائقي عن استراتيجيات الإعلام المصري بأنواعه أثناء الثورة، ومحاولته القضاء على الثورة وتشويهها منذ البداية، عبر سيل من الأكاذيب المستمرة والممنهجة لتأليب المواطنين على الثوار. فضلًا عن تشويههم وادعاء أن المتواجدين في ميدان التحرير عملاء وخونة وأجانب، ينتمون إلى الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران وأيرلندا وعشرات الدول الأخرى.
استدعى العمل في هذا الفيلم قراءة كافة أعداد الصحف المصرية من كافة اتجاهاتها وتحليل مضمونها، بالإضافة إلى متابعة مئات الساعات من النشرات الإخبارية وحلقات وبرامج القنوات المصرية، ومحاولة استخلاص أهم السياسات الإعلامية التي تم اتباعها طوال الثمانية عشر يومًا. كما تطلب ذلك التواصل مع مذيعين وصحفيين ومحللين لمقابلتهم وتوثيق شهاداتهم وإفاداتهم.
كان العمل في الفيلم من أمتع التجارب التي مررت بها، إذ أعطتني الفرصة لرؤية كيف يتم صناعة الكذب وتكراره والإلحاح عليه حتى يغدو حقيقة واقعة لا شك فيها، وكان اشتراكي في أحداث الثورة منذ بدايتها بصفة شخصية عاملًا إضافيًا لمساعدتي في إظهار مدى الخداع الذي مارسه الإعلام على الجمهور، وفبركة قصص ليس لها أي وجود على أرض الواقع في ميدان التحرير، وهو ما كنت أتأكد من عدم صحته بعيني أثناء الثورة.
أيضًا كان للفيلم أهمية كبيرة في إظهار ما كان يقوله الإعلام في ذلك الوقت عن الثوار أنفسهم، الذين كانوا مشغولين بالتظاهر والاعتصام في الميادين، ولم يكونوا يشاهدون القنوات المصرية إلا نادرًا، وركزوا متابعتهم على قنوات غير مصرية وخاصة “الجزيرة” التي كانت تنقل ما يحدث أولًا بأول، لدرجة أن المعتصمين أقاموا شاشة كبيرة لبث القناة في ميدان التحرير لمتابعة الأحداث.
وبالفعل، توصلنا إلى أهم تلك الاستراتيجيات ليتناولها الفيلم بالتحليل، وهي:
استباق الأحداث – التهوين – التهويل – التخويف – التشتيت – التشويه – قمع الإعلام الحر – استخدام الخطاب العاطفي – اختلاق وقائع ممسرحة – استخدام المشاهير – تبديل المواقع.
حلل الفيلم السياق الذي جاء فيه استخدام كل أداة من تلك الأدوات وذلك عبر شهادات حية من عدد من العاملين بقطاع التلفزيون الرسمي وعدد من رؤساء تحرير الصحف القومية، وعدد من أساتذة الإعلام ومحللي المحتوى الإعلامي. كما وثق الفيلم للانتهاكات التى تعرضت لها عدد من القنوات الفضائية وعلى رأسها الجزيرة وبي بي سي.
من بين الاستراتيجيات التي اتبعها الإعلام، أتذكر أن أطرفها كانت تلك المتعلقة باختلاق وقائع ممسرحة، فلم أكن أتصور أن يصل الإعلام في الفبركة والرداءة والكذب إلى هذا المستوى المتدني والفج في الوقت نفسه، أي أنه أصبح لا يجيد حتى الكذب.
تتلخص تلك الاستراتيجية في قيام القنوات باستضافة شخصيات مجهولة باعتبارهم شهود عيان على ما يجري في ميدان التحرير، أي أنهم كانوا في البداية ثوارًا، ثم اكتشفوا أنها ليست ثورة وإنما مؤامرة، ليعلنوا توبتهم وندمهم على الشاشات، ويدعون المتظاهرين إلى الانسحاب من الميادين والعودة إلى بيوتهم.
وتعتبر قصة الناشطة “شيماء” التي استضافها المذيعان “سيد علي” و”هناء السمري” على قناة “المحور” الفضائية أحد أبرز الأمثلة على تلك الاستراتيجية.
ظهرت “شيماء” وقد أخفي وجهها، لتحكي قصتها المضحكة، لتقول إنها تدربت مع أعضاء حركة السادس من أبريل، وشباب الإخوان المسلمين، على يد أعضاء من الموساد الإسرائيلي والمخابرات الأمريكية في قطر وصربيا لإسقاط النظام في مصر، وينطلق المذيعان في وصلة من الدهشة المصطنعة والانبهار بهذه الأسرار الخطيرة التي كشفت عنها شيماء. ويلقيان اللوم عليها لأنها لم تكشف عن تلك “المعلومات” قبل ذلك.
ليس غريبًا أن تقوم القناة بذلك، فالمتابع لتغطياتها أثناء الثورة يلاحظ بسهولة أن خطابها لم يكن يختلف في شيء عن خطاب تلفزيون الدولة، كما أنها اتبعت نفس سياسات الكذب التي اتبعها الإعلام الرسمي، وكانت البطل الرئيسي في ترويج شائعة “الكنتاكي” الشهيرة، التي أطلقها الفنان “حسن يوسف” في اتصال تليفوني على شاشتها. ولم لا؟ أليست القناة ملكًا لرجل الأعمال “حسن راتب” عضو الحزب الوطني؟ أليس من الطبيعي أن يدافع الرجل عن مصالحه والنظام الذي يشكل أحد أركانه بشدة باعتبارها معركة حياة أو موت؟
لذلك، لم يكن مثيرًا للاستغراب أبدًا أن يعيد التلفزيون الرسمي حلقة البرنامج الذي ظهرت فيه شيماء كاملة، باعتباره كشفًا عظيمًا يكشف حقيقة “المؤامرة” التي تتعرض لها مصر!
لكن لم تمض ساعات على تلك الحلقة إلا وكان الكاتب الصحفي “بلال فضل” يفضح حقيقة المدعوة “شيماء” ويكشف أنها صحفية تسمى “نجاة عبدالرحمن” اشتهرت بفبركة التحقيقات الصحفية، الأمر الذي أدى إلى فصلها نهائيًا من الجريدة التي كانت تعمل بها، لتجد نفسها أمام فرصة لا تعوض للشهرة أثناء الثورة.
https://www.youtube.com/watch?v=PWEB5MS0zVQ
وقد حرصت على التأكد من المعلومات التي قالها “بلال فضل” أثناء عملي في فيلم “ًصناعة الكذب”، من خلال التواصل مع صحفيين عملوا مع “نجاة”، وتأكدت فعلًا من صحة جميع ما ذكر. والأهم أن الثوار لم يكونوا محتاجين إلى معلومات بلال فضل لكشف زيف ادعاء نجاة، فقد كانت القصة واضحة الفبركة والاختلاق بدرجة لا تحتاج إلى بذل أي جهد لمناقشتها، كما أشبعها المتظاهرون ونشطاء التواصل الاجتماعي سخرية واستهزاء لدرجة دفعت صاحبة الكذبة إلى التواري والاختفاء من المشهد تمامًا بعد نجاح الثورة.
لكن الأيام الأخيرة حملت لنا عودة نجاة مرة أخرى في حلقة مع المدعو أحمد موسى (لن أقول الصحفي أو المذيع فهو لا هذا ولا ذاك وإنما شيء آخر لن أذكره) أعادت خلالها نفس القصة البلهاء مرة أخرى وبنفس التفاصيل الساذجة التي لا تنطلي على عقل طفل، وسط احتفاء واضح من موسى وصحف رأت في تلك الحلقة مناسبة للهجوم على الثورة.
الغريب أن أحدًا لم يسأل نفسه: لماذا لم تلق السلطات القبض على نجاة أو غيرها ممن ادعت أنها كانت تتدرب معهم على إسقاط الدولة، بتهمة المشاركة في مؤامرة أجنبية على مصر إذا كان كلامها صحيحًا؟ ولماذا لم تتحرك أجهزة الدولة وتأخذ كلامها على محمل الجد في المرتين اللتين قالت فيهما نجاة هذا الكلام؟ الإجابة المنطقية أنهم يدركون جيدًا أن هذه الحكاية كاذبة من أولها لآخرها، لكنهم يتركونها تتفاعل فقط على المستوى الإعلامي من أجل إحداث التأثير المطلوب، وهو شيطنة ثورة يناير وشبابها عند المواطنين.
عودة نجاة أمر طبيعي في ظل حالة الانكسار الكبير التي تعيشه ثورة يناير، وعودة دولة مبارك إلى الحياة أقوى وأشرس بعشرات المرات، لذا كان طبيعيًا أن تجد نجاة الجرأة والصفاقة لتكرار هذيانها أمام الشاشات مقابل حفنة من الجنيهات من المؤكد أن موسى قدمها نظير تشويهها للثورة والثوار، وهو هدف يضعه نصب عينينه ولا يمل من محاولة تحقيقه بشتى الوسائل.
إتاحة المساحة أمام من يريد تشويه ثورة يناير يأتي في نفس الوقت الذي تقرر فيه جامعة الأزهر سحب الدرجة العلمية من باحث بالجامعة، وتحويله للتحقيق، تمهيدًا لإلغاء تسجيل رسالته للدكتوراه بالكامل، كما قررت أيضًا إحالة الأساتذة المشرفين على الرسالة إلى التحقيق العاجل، وإيقاف الدراسات العليا بكلية الدعوة وتشكيل لجنة لمراجعة جميع الرسائل. بعد تحريض سافر من جريدة اليوم السابع على الباحث، وهجومها على جامعة الأزهر بسبب منحها الباحث درجة الدكتوراه، كل ذلك لأن الباحث تجرأ ووصف ما حدث بعد الثلاثين من يونيو بأنه “انقلاب”. وهي ممارسات تعيدنا إلى العصور الوسطى ومحاكم التفتيش بامتياز.