(عاوز أروّح.. ركّبني وروّحني)… قالها أحد الشباب لصديقه باكياً، أثناء اشتراكه في إحدى التظاهرات، عندما بدأت قوات الأمن في الاعتداء على المتظاهرين كالعادة. لكن بالنسبة للشاب، كانت هذه المرة الأولى التي يحضر فيها مثل هذا الموقف. والأخيرة أيضاً، فقد امتنع بعدها عن النزول في أي من الفعاليات المعارضة للانقلاب العسكري في مصر.
لا بأس.. قد تعتقد أن هذا الشاب مسكين وخوفه مبرر، فمَن منّا لم يتعرّض لمواقف أثارت خوفه، خاصة خلال الثلاث سنوات الماضية، والتي حفلت بكل أنواع العنف الممكنة.
لكن المثير للدهشة أن هذا الشاب نفسه، بمجرد جلوسه أمام شاشة الكمبيوتر، ودخوله إلى مواقع التواصل الاجتماعي، يتحوّل فجأة إلى وحش كاسر، ينادي بضرورة إعلان الجهاد ورفع السلاح في وجه الطغاة، كما أنه دائم الهجوم على الإخوان في مصر، وحركة النهضة في تونس، واتهامهم بالخنوع والمذلّة لاقتصار فعاليات الأولى على التظاهر فقط، وتأكيد الثانية على احترامها لقيم الديمقراطية والتوافق.
لا أحب التعميم على الإطلاق، وكثيرا ما انتقدت العديد من الكتابات بسبب ما رأيته فيها من اختزال وتنميط فئات كاملة من البشر، وإطلاق أحكام مطلقة وباترة عليهم بكل أريحية، لكن لولا أنني صادفت العشرات من هذه النوعية، ورأيت ما يكتبونه بنفسي عدة مرات، وتابعت حساباتهم بصورة منتظمة، ولولا أن هذه الظاهرة أثارت بالفعل انتباه الكثيرين لما كتبت عنها.
بالإضافة إلى الجعجعة الفارغة، يتميّز عضو الألتراس الجهادي أو مجاهد الكيبورد، وفقاً لتسمية أطلقها متابعون، بسخريته الدائمة من دعاوى التمسك بالسلمية أثناء الفعاليات المناهضة للانقلاب في مصر، ويحرص على تأكيد سخريته هذه بكتابة عبارات على وزن الجملة الشهيرة التي قالها مرشد الإخوان محمد بديع في ميدان رابعة: “سلميتنا أقوى من الرصاص”، لتتحول إلى “سلميتنا أقوى من الأناناس” و”سلميتنا أقوى من البلاص”، وغيرها من العبارات المكررة والمحفوظة. وهي عبارات ليست من بنات أفكاره بالطبع، لكنها استهوته وأصبحت دائمة الوجود على صفحته.
بؤس هؤلاء الألتراس ظهر واضحا قبل انقلاب الثالث من يوليو بأشهر، عندما بدأوا يحتفون بنماذج بائسة للغاية باعتبارها رموزا ترعب “العلمانيين والليبراليين.. إلخ”، وأنها حائط الصد المنيع ضد أي محاولات للانقلاب على الشرعية، ووضع بعضهم صور هؤلاء “الرموز” على حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، أمثال المدعو عاصم عبد الماجد، الذي ظهر في مؤتمر نصرة سورية في استاد القاهرة سائرا بصحبة صفوت حجازي، وسط تهليل غير عادي من الجمهور.
فر عبد الماجد بجلده فور حدوث الانقلاب، ويظهر حاليا على شاشات القنوات المسماة “إعلام الشرعية” ليصول ويجول في الاستوديوهات، والغريب أن العديد من أفراد الألتراس الجهادي مازالوا يحتفون بكلام الرجل ويعتبرونه “صفعة على وجه الانقلابيين…..إلخ”.
قبل الانقلاب أيضا، امتلأت صفحات هؤلاء بالتهديد بإشعال “ثورة إسلامية” في حال عزل مرسي، وأقسم أحدهم بأنه سيحمل السلاح في اللحظة التي يحدث فيها هذا، وكتب آخر على حسابه على موقع “فيسبوك” ما أسماها “خطة” لمواجهة أي انقلاب محتمل، تتمثل في قيام الجماعة الإسلامية بالسيطرة على محافظات الصعيد، بينما تسيطر السلفية الجهادية على سيناء، ويتولي الإخوان والسلفيون الوجه البحري والمحافظات الحدودية. طبعا غني عن القول أن هؤلاء جميعا هربوا إلي الخارج بعد الثالث من يوليو مباشرة، ومازالوا يكتبون من مخابئهم مقالات كاملة تحث على الثبات والاستمرار في مواجهة الانقلاب.
لا يقتصر انتماء الألتراس الجهادي على تنظيم بعينه، وإنما يحرص على تمجيد كل التيارات والتنظيمات الحاملة للسلاح في جميع البلدان، على اختلاف مناهجها ورؤاها، وحتى لو كانت تكفّر بعضها بعضاً، بدءاً من حركة حماس، مروراً بتنظيم القاعدة وحركة طالبان، وحتى جبهة النصرة، وأخيراً جاء “داعش” ليلتهم كل هذه التنظيمات ويصبح النجم الأول في سماء “الجهاد” خلال الفترة الأخيرة.
لا يستخدم الألتراس الجهادي كلمة “داعش” مطلقاً، ولا حتى مصطلح “تنظيم الدولة”، وإنما هي “الدولة فقط”، أو “الدولة الإسلامية”. وأعضاء “داعش” هم “جنود الدولة” الذين يدعو لهم بالنصر والثبات والتمكين على أعدائهم.
يهتم فرد الألتراس الجهادي بتفنيد ما يعتبرها “شبهات” حول “الدولة”، مثل نكاح الجهاد وسبي النساء، لكنه لا يجد مبرراً واضحاً في قضايا أخرى كثيرة، مثل تكفير كل مَن يخالفها، وذبح المعارضين وصلبهم، وإعدام المئات من أفراد العشائر السورية والعراقية، ورجم امرأة بتهمة الزنا، فيؤكد على صحة موقف “الدولة” في كل ذلك، بل يتطوّع في الأغلب بتكفير وتخوين منتقديها بدلاً منها، وكيل الشتائم والسباب لمَن يعترض. ولا ينسى أن يتوعّد مخالفيه على طريقة “عندما تأتي الدولة سأفعل بك كذا وكذا”.
اللافت أن نسبة لا يستهان بها من ألتراس الجهاديين، يتهمون منتقدي داعش بأنهم مغيبين عن الواقع، ولا يدرون عنه شيئاً لأنهم جالسون في منازلهم ولا همّ لهم سوى الانتقاد، وشاع بينهم مصطلح “جهاديي النخبة” لوصف هؤلاء المنتقدين.
والمضحك أن هذا الاتهام ينطبق بالحرف ـ أول ما ينطبق ـ على ألتراس الجهاديين أنفسهم، فهم أيضاً جالسون في منازلهم ويتابعون الأخبار عبر شبكة الإنترنت مثلهم مثل غيرهم. وعند مناقشتهم في أي من الأحداث الجارية، تتضح سطحيتهم وقلة معرفتهم بما يتحدثون عنه.
قبل أيام، نشرت شبكة “رصد” على صفحتها خبرا يفيد بإصدار “داعش” قرار بمنع تدريس العلوم الإنسانية في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم. وبغض النظر عن صحة الخبر من عدمه، إلا أن تعليقات ألتراس الجهاديين على الخبر، تكشف إلى أي مستوى يمكن أن يصلوا في الدفاع عن “الدولة” والتنظير لأفعالها مهما بلغت من حماقة وشطط، فمنهم من أكد صحة القرار ودعا لهم بالتوفيق، فيما تحدث آخرون عن انعدام فائدة العلوم الإنسانية من الأساس، وبالتالي يصبح قرار منع تدريسها في محله.
لا نستطيع إغفال دور إعلام داعش في إبهار الحالمين بنموذج جهادي ناجح، خاصة بعد طرح العديد من الأفلام ذات المستوى الإخراجي والتقني الممتاز، متضمنة العديد من المعارك الحية على مستوى عدة جبهات يقاتل فيها التنظيم. خاصة الفيلم الأخير “لهيب الحرب”، وسلسلة “صليل الصوارم”، التي ينشرها ألتراس الجهاديين مع تعليقات مؤيدة ومهللة.
بعض ألتراس الجهاديين يعتمد منطقا غريبا للغاية في دفاعه عن التنظيم، فطالما أعلنت الولايات المتحدة عن عداءها له، إذن فهو على الطريق الصحيح، ويتساءل: إذا كانوا على باطل، فلماذا ينجحون ويهزمون أعدائهم؟ وكيف يمتلكون كل هذه الشجاعة إذا لم يكونوا على حق؟ السطحية الشديدة في هذا المنطق يمكن الرد عليها ببساطة شديدة في الآتي:
إذا كانت العبرة بعداء الولايات المتحدة، فهناك مئات الأشخاص والكيانات المعادية للولايات المتحدة على مدار التاريخ، تنتمي إلى جميع المذاهب والأديان. وإذا كانت العبرة بالنجاح أو الفشل، فماذا يقول هؤلاء في التراجع الذي أصاب التنظيم بعد التحالف الدولي ضده؟ في هذه الحالة يلقي هؤلاء بمنطقهم جانباً، ويتحدثون عن الإمكانات الهائلة التي يتمتع بها التحالف، أي أن الفشل في هذه الحالة لا يدلّ على شيء.
وإذا كان تأييد داعش يرتبط بشجاعتهم في القتال، فقد كان الطيارون اليابانيون يفجرون طائراتهم في السفن الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية، كما كان الشباب الإيرلندي يموت وهو مضرب عن الطعام في السجون البريطانية، فهل لدي ألتراس الجهاديين استعداد لاعتبارهم أصحاب حق؟
الاحتفاء بنموذج “داعش” من ألتراس الجهاديين لا يرتبط باقتناعهم بمبادئه بأي شكل من الأشكال، وإنما هو محض إعجاب بقوة التنظيم وبأسه، وفي اللحظة التي سيتراجع فيها التنظيم ويفقد المناطق التي يسيطر عليها حالياً، سينفضّ هؤلاء عنه ويبحثون عن نموذج آخر يشبع رغباتهم المكبوتة في إقامة “الدولة الإسلامية”، حتى لو كان نموذجاً أكثر تشوّهاً من داعش.
تم نشره بقسم ملحق جيل بموقع العربي الجديد بتاريخ 11/13/2014