ها قد عاد وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري” لينتقم مما تعرض له من إهانة في قصر الاتحادية أثناء زيارته السابقة لمصر. إذا كنت تري أن هذا الكلام عبارة عن خزعبلات لا أساس لها من الصحة، دعني أقل لك إن هذا ما روج له الكتاب والصحفيون عندما كان جون كيري متواجدا في مصر يوليو 2014 للقاء الرئيس عبد الفتاح السيسي، للتباحث بشأن وقف إطلاق النار في غزة. بعد قيام الحرس الرئاسي بتفتيشه مستخدمين جهازا محمولا للكشف عن المعادن.
حينها ركزت وسائل الإعلام بشكل كبير على الواقعة، واعتبرت أن هذا التفتيش يدل على ندية العلاقة مع الولايات المتحدة واستقلالية القرار المصري. ونشرت جريدة الوطن تقريرا قالت فيه إن هذا الإجراء يحدث لأول مرة، وأنه بمثابة تطبيق لمبدأ “المعاملة بالمثل”، ونبهت إلى قيام أجهزة الأمن الأمريكية قبل سنوات بفحص “حذاء” وزير خارجية مصري وتفتيشه تفتيشا كاملا[2]. كما أن العديد من وزراء مصر يتم تفتيشهم اثناء الدخول لأي مبني حكومي أمريكي.
أيضا نشرت مواقع إخبارية مقطع فيديو لعملية تفتيش كيري، بدا خلاله وكأن هناك استعدادا مسبقا لتصوير المشهد[3]. كما قامت فضائيات عديدة بإذاعة المقطع. وأعرب الخبير الاستراتيجي “سامح سيف اليزل” خلال لقاءه على قناة “سي بي سي” عن سعادته بما حدث. أما المذيع “عمرو أديب” مقدم برنامج “القاهرة اليوم” فأشاد بتفتيش كيري، وأكد أن هذه الصورة تؤكد شكل مصر الجديدة التي لا تتمتع بعلاقة تبعية مع الولايات المتحدة، عكس عهدي مبارك ومرسي، حسب تعبيره. وتابع أديب: إن مصر أصبحت دولة “وحش كبير” تختار قراراتها طبقاً لمصلحتها وتحافظ على سلامتها ويشعر الناس كلها أنها ليست هينة أو طيبة[4]. وفي اليوم التالي توسعت التغطية الإعلامية لتشمل نشر تعليقات الصحف الأجنبية على الواقعة، ومنها جريدة “جارديان” البريطانية، التي تحدثت عن إهانة تعرض لها وزير الخارجية الأمريكية[5]. وهو نفس المضمون الذي أشار إليه البعض ممن اعتبروا هذا المشهد فضيحة بروتوكولية.
لم يفلح تركيز الإعلاميين وقتذاك على الشكليات في مداراة “المضمون”، فبعد أن عقد كيري جلسة مباحثات مع السيسي، خرج في مؤتمر صحفي من داخل قصر الاتحادية الذي تعرض فيه للتفتيش ليصرح أن واشنطن تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، في مواجهة “اعتداءات” حركة حماس[6]، وقد كان تصريحا غير مسبوق لمسئول أمريكي في حضور مسئول مصري. ويعتبر أقوى حديث لدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. كما أكد جون كيري أيضا أن الهدف من زيارته للقاهرة هو تأكيد دعم الرئيس الأمريكي باراك أوباما للمبادرة المصرية لوقف إطلاق النار في غزة، وهي نفس المبادرة التي كانت إسرائيل قد وافقت عليها إسرائيل أيضا، بينما رفضتها كافة فصائل المقاومة الفلسطينية.
لم يكن هذا التصريح الأول من نوعه لمسئول أجنبي في حضور مسئول مصري، فقد سبقه الأمين العام للأمم المتحدة “بان كي مون” عندما أكد أن من حق الشعب الاسرائيلي الدفاع عن نفسه من صواريخ حماس، وذلك خلال مؤتمر صحفي مع وزير الخارجية سامح شكري أثناء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، كما أعلن أيضا تأييده للمبادرة المصرية، التي لم يكن المسئولون الأجانب يتحدثون عنها إلا في سياق الدفاع عن إسرائيل. لكن الإعلام رأي أن ذلك لا يهم، طالما أن كيري تعرض للتفتيش. لكن حتى هذا التفتيش لم يهنأ به الصحفيون كثيرا، عندما قام جهاز الأمن المرافق لجون كيري بتفتيش المصورين الصحفيين المصريين بالكلاب البوليسية قبل دخولهم لتغطية المؤتمر الصحفي له في زيارته الى القاهرة في سبتمبر/ أيلول 2014. ومنهم مصور وزير الخارجية المصري نفسه[7]. لكن أحدا من الصحف أو الفضائيات التي هللت في المرة الأولي لم تعلق على الحادثة.
صحفيون آخرون غضبوا من هذه المعاملة وقرروا إبداء اعتراضهم، لنكتشف أن هذه ليست المرة الأولي التي يحدث فيها هذا، وأن حرس “كيري” قام بتفتيش الصحفيين بنفس الطريقة خلال الزيارة السابقة، بل قاموا أيضا بإغلاق باب قاعة المؤتمر والصحفيين بداخلها، لحين مغادرة كيري والوفد المصاحب له، وهو ما أحدث مشادات بين الأمن والصحفيين. ولم تتحدث عنه وسائل الإعلام من قريب أو بعيد.
إذا قررنا أن نأخذ من هللوا في المرة الأولي على تفتيش كيري “على قد عقلهم” ونعتبر أن هذا الإجراء إهانة له، ودليل على ندية العلاقة مع الولايات المتحدة، فكيف يمكن أن نقيم تفتيش الصحفيين بالكلاب البوليسية من قبل الأمن الأمريكي على أرض مصرية؟
[1] نشر في موقع الجزيرة مباشر مصر في 24 سبتمبر/ أيلول 2014.
[2] “المعاملة بالمثل.. اليوم تفتيش كيري وقبل سنوات فحص حذاء وزير خارجية مصري بأمريكا”، الوطن، 23 يوليو/ تموز 2014.
https://www.elwatannews.com/news/details/525770
[3] “بالفيديو والصورة.. ننشر لحظة تفتيش الأمن الرئاسي لـ”كيري” ومعاونيه قبل لقاء “السيسي”، الفجر، 22 يوليو/ تموز 2014.
[4] “عمرو أديب يعرب عن دهشته من تفتيش وزير الخارجية الأمريكي جون كيري”، اليوم السابع، 23 يوليو/ تموز 2014.
[5] “جارديان: تفتيش كيري في مصر «محرج ومُذل”، المصري اليوم، 25 يوليو/ تموز 2014.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/489343
[6] “كيري من «الاتحادية»: ندعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، المصري اليوم، 22 يوليو/ تموز 2014.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/487445
[7] “بعد تفتيشه قبل لقاء السيسي.. كيري يستعين بـ«كلب بوليسي» لتأمينه”، المصري اليوم، 13 سبتمبر/ أيلول 2014.
https://www.almasryalyoum.com/news/details/522720
