الصحافة ورابعة: ما ذنب النباتات؟
بعد أحداث الاتحادية في ديسمبر/ كانون الأول عام 2012 بين أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي ومعارضيه، والتي أسفرت عن مقتل 10 أشخاص، خرج المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين “محمد بديع” في مؤتمر صحفي للحديث عن وجهة نظر الجماعة تجاه هذه الأحداث. وتكلم عن الهجوم علي مقر الجماعة وتكسير محتوياته، متسائلا بتأثر: النباتات.. ما ذنب النباتات؟ في ذلك الوقت أشبع النشطاء والإعلاميون تلك الجملة سخرية واستهزاء، وكانوا يرون –عن حق- أن الحديث عن النباتات أمر عبثي في ظل سقوط 10 قتلي من المصريين.
إلا أن الزمن دار، ورأينا الصحافة المصرية تتباكي على النباتات والحيوانات، بل والأحجار مرات عديدة، وتري أنها أهم من وقوع قتلي بين المصريين، كانت آخرها ذكري مجزرة فض ميدان رابعة العدوية يوم 14 أغسطس/ آب الماضي. عندما نشرت جريدة “اليوم السابع” تقريرا عن ” الحالة النفسية للفيلة والأسود والزرافات” بعد عام من فض ميدان النهضة.[2]
إذا تمعنت في تفاصيل التقرير، لن تتمالك نفسك من الإحساس بالأسف والأسي على المستوي الذي وصلت إليه الصحافة المصرية. فمن بين كل ما حدث تركت الجريدة مئات القتلى الذين أحرق بعضهم أحياء، بالإضافة إلى المصابين والمعتقلين، وركزت جهودها على أضرار الحديقة. فمن بين الأشياء التي طالتها يد “التخريب” وتأثرت بها الجريدة وفقا لتقريرها “دولابين يعودان إلى عصر الملك فاروق مخصصة لحفظ الأعشاب، ولوحات أثرية تشير إلى نباتات مرسومة، بالإضافة إلى تدمير جميع شبكات الري والمسطح الأخضر وزجاجات لعينات نباتات مجففة نادرة والأشجار النادرة والمعمرة التاريخية، وإصابة حديقة حيوانات الجيزة بحالة توتر وهياج شديدين داخل أقفاصها بعد بلوغها مرحلة الشراسة الشديدة، بسبب الإضاءة الليلية الشديدة يوميا الصادرة عن الاعتصام، وتراجع إيراداتها بسبب عزوف زوارها خوف من الإخوان”. الصحيفة إذن لم تر في يوم الرابع عشر من أغسطس سوي أنها ذكري “عدوان الإخوان الغاشم على النباتات والحيوانات” التي أصابها الاكتئاب من الاعتصام، فتدخلت قوات الشرطة لتحسين حالتها النفسية وتخليصها من إزعاج المعتصمين وأنوارهم العالية.
اليوم السابع رأت في اعتصام ميدان رابعة احتلالا أجنبيا، ونشرت تقريرا بعنوان احتفالي يعتبر مجزرة الفض تحريرا لميدان رابعة من الإخوان. منوهة عن الخسائر المالية التي تكبدتها الدولة لتأهيل الميدان من جديد عقب معركة تحرير الميدان.[3]
قد يظن البعض أن هذه التقارير جديدة على الصحافة المصرية، لكن الحقيقة أن هذه النوعية من التقارير دائما ما تتحفنا بها الصحف. وقد يكون من المفيد التذكير ببعضها. ففي 3 ديسمبر/ كانون الأول 2012، نشرت جريدة “الوطن” قصة الطفلة “مني” التي كانت تحلم بزيارة حديقة الحيوانات، وعندما ذهبت إلى هناك مع أسرتها فوجئت بإغلاقها نتيجة مظاهرات أنصار مرسي. واستفاضت الجريدة في الحديث عن تأثر الأسرة وملامح الصدمة التي كانت بادية على وجوههم عند تلقيهم الفاجعة، وتحطم أحلام الصغير مني التي كانت تود رؤية الزرافة علي وجه الخصوص.[4]
وبعد مذبحة المنصة عقب الانقلاب العسكري، التي سقط خلالها أكثر من 100 قتيل، تجاهلتهم جريدة الوطن تماما وتباكت على أحجار الرصيف التي قام أنصار مرسي بتكسيرها لحماية أنفسهم من رصاص قوات الشرطة! وأكدت في تقرير لها أن الخسائر الناتجة عن تكسير تلك الأحجار بلغت 22 مليون جنيه[5]. ولم توجه الجريدة اللوم إلى وزارة الداخلية التي لولا إطلاقها الرصاص الحي على المتظاهرين لما احتاجوا إلى تكسير تلك الأرصفة. وربما لو كانت الجريدة موجودة وقت موقعة الجمل لتباكت أيضا على الأرصفة التي اقتلعها المتظاهرون في ميدان التحرير للدفاع عن أنفسهم ضد هجمات أنصار مبارك المدعومين بالجمال والخيول. أما جريدة الأهرام فسارت على درب “الوطن”، وأعلنت الحداد لمدة 3 أيام في حديقة الحيوانات لوفاة “الشمبانزي مشمش” بعد إصابته بالاكتئاب لعدم وجود زوار منذ 28 يونيو، أي بسبب اعتصام أنصار مرسي في ميدان النهضة أمام جامعة القاهرة.[6]
ونشرت الجريدة السيرة الذاتية للقرد مشمش قائلة بفخر “يذكر أن الشمبانزي مشمش وصل إلى حديقة حيوان الجيزة قادما من حديقة حيوان الإسكندرية في أبريل الماضي، بعد وفاة زوجته لولا، وتزوج من الشمبانزي لوزة. ومشمش يبلغ من العمر 32 عاما وهو يتميز بألعاب الهواء والأكروبات ولديه قوة عضلية بذراعيه تساعده على عمل عروض ممتعة أمام زائري الحديقة الذين كانوا يصفقون له وكانت له شعبية جماهيرية”.[7] كما تسبب اعتصام النهضة أيضا وفقا للجريدة في إعلان حالة الطوارئ بحديقة حيوانات الجيزة، بسبب ذعر الحيوانات المفترسة من الكشافات التي أحضرها معتصمو النهضة![8]
الحيوانات بالنسبة للصحافة المصرية وصلت إلى حالة يرثي لها بسبب المعتصمين قساة القلوب غلاظ المشاعر، ونشرت المصري اليوم استغاثة تؤكد أن الحيوانات تعرضت لأزمات نفسية، بسبب هتافات المتظاهرين في ميدان النهضة وإشعالهم الشماريخ. لدرجة أن الزرافة والفيل والغزال يفكرون في الانتحار.[9]
في مصر فقط تري الصحافة والعاملين فيها أن النباتات والحيوانات والأحجار والأموال أهم من أرواح البشر، طالما كانوا ينتمون إلى المعسكر الآخر المختلف معها. فإذا كان هذا حال الصحفيين الذين هم جزء من نخبتها، فكيف يكون الحال مع الجماهير والقراء الذين يتعرضون لهذه الرسائل الإعلامية يوميا؟
[1] نشر في موقع الجزيرة مباشر مصر بتاريخ 25 أغسطس/ آب 2014.
[2] “عام على ذكرى تخريب الإخوان لحديقتي الأورمان والحيوان.. و”الزراعة”: خسرنا أشجارًا ونباتات تاريخية ب20 مليونا بخلاف المقتنيات الأثرية.. والحالة النفسية للفيلة والأسود والزرافات استقرت عقب إصابتهم بالهياج”، اليوم السابع، 14 أغسطس/ آب 2014.
[3] “بعد مرور عام على تحرير ميدان رابعة من الإخوان.. 85 مليون جنيه تكلفة تطويره من جديد.. محافظة القاهرة لم تحسم إعادة افتتاح المسجد حتى الآن.. وحكومة ما بعد 30 يونيو أعادت الحياة للميدان”، اليوم السابع، 14 أغسطس/ آب 2014.
[4] “مظاهرات جامعة القاهرة تقطع الطريق على «منى»: كان نفسي أشوف الزرافة”، الوطن، 3 ديسمبر/ كانون الأول 2012.
https://www.elwatannews.com/news/details/88821
[5] “21.4 مليون جنيه خسائر القاهرة بسبب تدمير مؤيدي مرسي 3 كيلومترات طرقاً وأرصفة”، الوطن، 30 يوليو/ تموز 2013.
https://www.elwatannews.com/news/details/234530
[6] “حديقة الحيوان أغلقتها الاعتصامات!”، الأهرام، 8 أغسطس/ آب 2013.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/225369.aspx
[7] “حداد في حديقة الحيوان حزنا علي رحيل الشامبنزي مشمش”، الأهرام، 3 أغسطس/ آب 2013.
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/224491.aspx
[8] “بالصور.. طوارئ بحدائق حيوان الجيزة بسبب ذعر الحيوانات المفترسة من “كشافات” معتصمى النهضة”، الأهرام، 28 يوليو/ تموز 2013.
http://gate.ahram.org.eg/News/377122.aspx
[9] “نتيجة عنف الإخوان: الزرافة والفيل والغزال تفكر في الانتحار”، المصري اليوم، 18 أغسطس/ آب 2013.
https://today.almasryalyoum.com/article2.aspx?ArticleID=393774