الإعلام وتحويل العلماء من الإفتاء إلى “الفتي”
“الفتي” بفتح الفاء وتسكين التاء، كلمة يطلقها المصريون على الشخص الذي يتحدث كثيرا فيما لا يعرفه، ويروج شائعات لا أساس لها من الصحة. مدعيا العلم ببواطن الأمور.
وإذا كان التدقيق والتحقق والتثبت من المعلومة قبل إصدار الأحكام من أهم مواصفات علماء الدين، إلا أننا وجدنا عددا منهم يتورط بمنتهي السهولة في تصديق شائعات، بل ويرد عليها ويشارك في معارك وهمية تفتعلها وسائل إعلام توقعهم في فخها لصنع الإثارة الصحفية المطلوبة. الأمر الذي ينقلهم من خانة الإفتاء إلى “الفتي”.
آخر تلك المعارك الوهمية، هي التي دارت بعد نشر جريدة الوطن خبرا مفبركا حول فتوي مزعومة للشيخ يوسف القرضاوي، مفادها عدم وجود ضرورة أو واجب شرعي لفتح باب الجهاد في فلسطين حاليّا، ودعوة شباب المسلمين إلى تركيز جهودهم على الجهاد في سوريا لتحريرها من ظلم بشّار الأسد وطغيانه.[2]
وعلى الرغم من نشر الجريدة الخبر دون ذكر مصدره، والاكتفاء بالقول إنها “تصريحات لوسائل إعلام قطرية” إلا أن الجريدة لم تتوقف في كذبها عند هذا الحد، وإنما حرصت على تحريض علماء الأزهر ودار الإفتاء على مهاجمة الفتوي المزعومة وقائلها المنسوبة إليه. وللأسف تورط هؤلاء العلماء في الهجوم علي القرضاوي ونعته بأوصاف أقل ما يقال عنها أنها منحطة ومبتذلة، منها وصفه بـ”الماجن” و”المخرف”.[3]
وتوالت الردود من “العلماء” ضد الفتوي الوهمية، وانتفض الدكتور إبراهيم نجم، مستشار مفتي الجمهورية، وأصدر بيانا للرد خصيصا على الفتوي، مؤكدا أن القضية الفلسطينية إسلامية وعربية، ولن يسترد فلسطين إلا المسلمون[4] والأغرب أن بيان مستشار المفتي وقع في تناقض مضحك، ففي الوقت الذي أكد فيه أن الجهاد لتحرير فلسطين واجب، إلا أنه بدا مدركا أن كلامه هذا ربما يورطه فيما لا يطيق، ويؤدي إلى اتهامه بتحريض الشباب على الجهاد بالمخالفة لتوجهات النظام الحالي، فحرص على التأكيد في نفس البيان أن الجهاد لابد أن يكون تحت راية الدولة[5]، أي أن مضمون البيان في النهاية لا يفرق كثيرا عن الكلام المنسوب للقرضاوي.
أما الدكتور محمد وسام، أمين عام الفتوى بدار الإفتاء، فتحرك سريعا واتهم الشيخ القرضاوي بالعمالة لإسرائيل وأنه ينفذ مخطط صهيوأمريكي “هكذا مرة واحدة”. كما تورط الدكتور وسام في ترويج شائعات سخيفة حول الرجل، مثل ادعاءه أن القرضاوي صرح أن الجيش الإسرائيلي أفضل من الجيش المصري[6]، وهو كلام عبثي لا يليق أن يردده شخص في هذا المنصب دون التحقق من صحته.
وعلى الرغم من نفي الشيخ القرضاوي إصدار تلك الفتوي[7]، إلا أن جريدة الوطن لم تنشر هذا النفي على الإطلاق وتجاهلته بصورة كلية، ولم تعتذر أو تحذف خبرها الكاذب. كما تجاهله أيضا العلماء الذين هاجموه واتهموه بكل نقيصة، حتى بعد ثبوت عدم صحة الكلام المنسوب إليه. وهو ما يؤكد النية المبيتة للتشهير بالرجل حتى لو كانت على حساب الحقيقة، وعن طريق اختلاق الأكاذيب. والسؤال الذي يجب أن يراود المتابعين، هو كيف نأتمن هؤلاء العلماء على ديننا، وكيف نطلب منهم الفتاوي إذا كانوا فاشلين في التأكد من صحة الأخبار ومصادرها؟
علماء الأزهر وقعوا في نفس الفخ الذي وقعت فيه وزارة الأوقاف قبل أسابيع، عندما تورطت في الترويج لشائعات جهاد النكاح التي ثبت اختلاقها، في بيانها الذي ربطت فيه بين جماعة الإخوان المسلمين، وتنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم “داعش”.
وها هم علماء دار الإفتاء يشنون حربا شعواء بسبب خبر آخر مكذوب. حادثتان تؤكدان ضرورة وجود نوع من التوعية الإعلامية للعلماء لتأهيلهم للتعامل مع وسائل الإعلام، حتى لا يستدرجهم الصحفيون ويورطونهم في تصريحات تسيء إليهم وتخصم من رصيدهم وتطعن في كفاءتهم العلمية والمهنية.
[1] نشر في موقع الجزيرة مباشر مصر في 23 أغسطس/ آب 2014.
[2] “القرضاوي: لا واجب شرعي للجهاد ضد إسرائيل وعلينا التركيز لمواجهة بشار”، الوطن، 7 أغسطس/ آب 2014.
https://www.elwatannews.com/news/details/534140
[3] القرضاوي: الجهاد ضد إسرائيل ليس واجباً شرعياً والأزهر: ماجن وخرف.. وفتواه ضد بشار شاذة”، الوطن، 8 أغسطس/ آب 2014.
https://www.elwatannews.com/news/details/534487
[4] “مستشار المفتي يستنكر فتوى القرضاوي بأن الجهاد ضد إسرائيل ليس ضرورة الآن.. والواجب الجهاد ضد بشار”، الأهرام، 8 أغسطس/ آب 2014.
http://gate.ahram.org.eg/News/523076.aspx
[5] “بالفيديو.. مستشار المفتي: «القرضاوي» خرج عن الشرع.. وندعو له بالهداية”، الشروق، 9 أغسطس/ آب 2014.
http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=09082014&id=5a7f89f7-75a8-4a86-8c54-411ac28eb290
[6] “بالفيديو.. الإفتاء: القرضاوي عميل لإسرائيل وأوغل في الضلال”، الشروق، 8 أغسطس/ آب 2014.
http://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=08082014&id=30453427-1553-4a68-9da6-be465cd63ba1
[7] “القرضاوي ينفى فتوى منسوبة له بعدم وجوب الجهاد في فلسطين”، الأناضول، 9 أغسطس/ آب 2014.