الشاذلي وإسرائيل.. رؤية مستقبلية
الفريق سعد الدين الشاذلي هو رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية أثناء حرب السادس من أكتوبر عام 1973، ويعتبر أحد أبرز الشخصيات في التاريخ العسكري المصري.
الفريق سعد الدين الشاذلي هو رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية أثناء حرب السادس من أكتوبر عام 1973، ويعتبر أحد أبرز الشخصيات في التاريخ العسكري المصري.
ويُعتبر كتاب “حرب أكتوبر” للفريق الشاذلي أحد أشهر وأهم الكتب التي تناولت تاريخ حرب أكتوبر وسير العمليات فيها، كما يروي من خلاله الشاذلي قصة خلافه الشهير مع السادات وأحمد إسماعيل وزير الحربية وتطورات هذا الخلاف.
اشتهر هذا الكتاب دون غيره من كتابات الفريق الشاذلي بسبب موضوعه، رغم أن الشاذلي لديه 3 كتب أخري شديدة الأهمية، ورغم ذلك لم يلتفت إليها أحد علي الإطلاق وظلت في طي النسيان حتي وقتنا هذا، بل وتم التعتيم عليها بشكل كامل نظرا لخطورة ما تنادي به من أفكار.
والمتابع لتاريخ الفريق الشاذلي يكتشف وجود عدد كبير من الكتابات والمقالات التي تحدث فيها الشاذلي عن موضوعات أخري وثيقة الصلة بالسياسة والاستراتيجية، فقد تحدث الشاذلي عن الوحدة العربية وعن الديمقراطية الغائبة في الدول العربية، وكذلك تحدث الشاذلي باستفاضة شديدة عن الصراع العربي الإسرائيلي ومستقبله.
وقد قدر لي أن أقوم بمتابعة ودراسة تاريخ الشاذلي وسيرته بشكل مفصل، حيث قمت بالمشاركة في إنتاج فيلم وثائقي عن حياته وأهم المحطات فيها، وقد حرصت علي قراءة كل ما كتبه الشاذلي من كتب ومقالات ودراسات وتوجيهات عسكرية، وجلست مع أفراد من عائلته وحاورت عددًا كبيرًا من أصدقائه وجنوده وتلامذته، وشاهدت واستمعت إلي أغلب أحاديثه ولقاءاته المرئية.
وكنت ولازلت على تواصل مع أسرته الكريمة مساعدا في كل الأمور المتعلقة بنشر تاريخ الرجل واظهار الحقائق التاريخية الخاصة بتاريخه وتاريخ حرب أكتوبر بشكل عام، وقمت بالإطلاع علي كتابات ووثائق نادرة تخصه، وقد أُعجبت بالرجل كثيرا خاصة أسلوب تفكيره الفريد من نوعه، وتحليله للصراع العربي الإسرائيلي ومستقبل هذا الصراع، وهو الموضوع الذي تناوله كثيرا في كتبه ومقالاته وحواراته الصحفية والتلفزيونية، كما خصص لهذا الموضوع أحد كتبه وهو “الخيار العسكري العربي”.
كتب الفريق الشاذلي 3 كتب أخري بجانب كتابه عن حرب أكتوبر، هذه الكتب هي: 4 سنوات في السلك الدبلوماسي- الحرب الصليبية الثامنة و”الخيار العسكري العربي”، الذي يعتبر من أهم وأخطر ما كتبه الشاذلي، إذ جاء هذا الكتاب للرد علي الدعوي التي أطلقتها الدول العربية من أجل السلام مع إسرائيل، والتي تقول إن السلام هو الخيار الوحيد المتاح أمام الدول العربية لإنهاء المشكلة بينها وبين الكيان الصهيوني، وهو ما كان يتعارض تماما مع قناعات الشاذلي العسكرية والاستراتيجية والفكرية، التي كانت تميل إلي حسم الأمور عسكريا بشرط تحقيق الوحدة العربية التي تسمح بتفعيل ما سماه “الخيار العسكري العربي”، الذي كان يري أنه الحل الوحيد لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
لا يؤمن الشاذلي بوجود سلام مع إسرائيل، والحل الوحيد الذي يراه لحل الصراع العربي الإسرائيلي هو أن ينتصر العرب علي إسرائيل وأن تزول إسرائيل من الوجود، كما يرى أنه حتي إذا رغب العرب في إقامة سلام مع إسرائيل، فإن التفاوض معها لا يمكن أن يؤدي بالعرب إلى حل عادل إلا إذا كانت إسرائيل تعلم جيدا بأن العرب يمتلكون القدرة العسكرية لتحقيق هذا السلام العادل بالحرب إذا فشلت المفاوضات في تحقيق ذلك.
فلم يكن الشاذلي معارضا لفكرة التفاوض في حد ذاتها، لكن ما كان يشدد عليه هو عدم استبعاد الخيار العسكري من الطاولة، لأن هذا ما سيدفع العدو للتنازل وتحقيق المطالب العربية.
ويُعبر الشاذلي عن هذه الفكرة في مقدمة كتاب الخيار العسكري بقوله “كنت ولا زلت أؤمن بأن الخيار العسكري هو الخيار الوحيد الذي يمكن عن طريقه أن يسترد العرب أرضهم وكرامتهم، ومع ذلك فإني لا أعترض علي طرح الخيار السياسي الذي يعبر عن آمالنا في تحقيق سلام عادل ودائم لشعوب المنطقة.
ولكن قبول الطرح السياسي شيء، وإسقاط الخيار العسكري شيء آخر. ولا أستطيع أن أتصور مطلقا أن إسرائيل يمكن أن تتصدق علي العرب وتعيد لهم أرضهم وأموالهم التي نهبتها منهم وهي طاعية مختارة، إذا هي تأكدت من أن العرب لن يلجأوا للعنف كوسيلة أخيرة إذا فشلت جميع جهودهم السياسية. كما وأني لا أستطيع أن أتصور مطلقا أن أي خيار سياسي يمكن أن يكتب له النجاح إذا لم يكن يسير في خط متواز مع الخيار العسكري”.
ربما تبدو رؤية الشاذلي متفائلة للغاية، وربما أكثر من اللازم في رؤيته لنتائج ومستقبل الصراع العربي الإسرائيلي، إذ يؤكد الشاذلي يقينا أن هناك حروبا قادمة ستندلع بين العرب وإسرائيل، وأن الرؤية الاستراتيجية تؤكد بما لايدع مجالا للشك أن العرب لابد أن ينتصروا علي إسرائيل إن عاجلا أو آجلا.
يستند الشاذلي في طرحه إلي ما يسميه “القوي الكامنة” التي يمتلكها العرب لكنهم لايحسنون استخدامها ولا استغلالها في صراعهم مع إسرائيل، تلك القوي التي لا ترتكز علي القدرات العسكرية والعملية، وإنما تستند إلي جذور حضارية وثقافية واجتماعية يتفوق العرب بها علي إسرائيل، وتتمثل هذه “القوي الكامنة” في عدة عوامل حددها الشاذلي في أنها “اتساع الإقليم.. وعدد السكان.. والثروات الطبيعية.. مع مقارنتها بما لدى إسرائيل”.. وهذا يبرهن على حتمية انتصار العرب متى استغلوا قوتهم الكامنة.
قد يبدو للبعض أن هذا الحديث من الفريق الشاذلي مجرد حديث مُجرّد أو أمنيات طيبة لا تستند إلي معلومات أو حقائق، ومن هنا تأتي أهمية متابعة ما كتبه الفريق الشاذلي في كتابه “الخيار العسكري العربي” الذي يُعتبر أخطر ما كتبه الشاذلي طوال تاريخه.
في هذا الكتاب، يثبت الشاذلي بالأرقام والإحصائيات والتحليل العلمي، قدرة الجيوش العربية علي هزيمة إسرائيل بإمكانياتها الحالية إذا توحدت في جبهة موحدة، وأن يكون قرارها مستقلا عن التبعية للولايات المتحدة، وأن يكون لها مطلق الحرية في استخدام سلاحها المخزون لديها بدلا من تكديس الأسلحة دون استخدامها، معتمدا علي المراجع العلمية المتخصصة فيما يتعلق بحجم القوات المسلحة وخصائص كل سلاح لدي الدول العربية وإسرائيل وغيرها من الدول، مثل المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، ومعهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام.
يعقد الفريق الشاذلي مقارنة بين القدرات العسكرية العربية والإسرائيلية، مستشهدا بآخر الأرقام والإحصائيات الصادرة عن الجيوش العربية في ذلك الوقت، ويمتليء الكتاب بالجداول والمعلومات والأرقام التي تقارن بين العرب وإسرائيل، ويستعرض عناصر القوة والضعف في كل من الدول العربية وإسرائيل، فقد حرص المؤلف على دراسة الخلفيات التاريخية و الدينية التي أدت إلى هذا الصراع و الدور التي تلعبة الدول العظمى من أجل تطوير هذا الصراع لكي يخدم مصالحها.
وفي ظل ضعف القدرات العسكرية العربية، فإن إسرائيل -كما يقول الشاذلي- تستطبع أن تفاوض لمدة عشرين سنة أو حتى مائة سنة دون التوصل إلى إتفاق. و هو يرى أن المستقبل البعيد في صالح العرب و بالتالي فإن ما لا نستطيع الحصول علية اليوم من حق، فسوف يكون في إستطاعتنا الحصول عليه فيما بعد مهما طال الأمد.
ولم يتوقف الفريق الشاذلي عند مجرد ذكر أرقام الدبابات أو الطائرات أو غيرها من الأسلحة لدي الجيوش العربية والإسرائيلية فحسب، وإنما قام بدراسة خصائص الأسلحة الرئيسية لدي كل دولة عربية علي أساس أن العدو المنتظر هو إسرائيل، وقام بدراسة كفاءة تلك الأسلحة مقارنة بما تمتلكه إسرائيل، وتوصل إلي نتيجة مؤكدة مفادها إنه إذا توحدت الدول العربية وحاريت إسرائيل كجبهة واحدة فإنها ستحقق نصرا كاسحا علي إسرائيل حتي بقدرات الدول العربية الحالية.
ويمكننا أن نلخص رؤية الشاذلي لحل الصراع العربي الإسرائيلي في النهاية في عدة نقاط أو نصائح أساسية يري الشاذلي أنها يجب أن تحكم تفكير صانع القرار العربي في المستقبل، والتي وجدتها مازالت مطابقة للواقع الحالي بصورة تدعو للدهشة، كما أنها مازالت صالحة حتى الآن للتعامل مع إسرائيل، هذه النقاط هي:
1- إن إسرائيل لن تعيد الأرض المحتلة إلي العرب علي صينية من ذهب.
2- إن الخيار السياسي في ظل العجز العربي الحالي، وتحت ظروف اختلال التوازن العسكري بين إسرائيل وبين القوة العسكرية العربية الفاعلة والمستعدة للقتال، هو اختيار طريق الاستسلام وقبول الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية.
3- إن الهدف الأمريكي الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط هو فرض الهيمنة الأمريكية علي شعوب المنطقة، ونهب ثرواتها، وإن إسرائيل هي الأداة الرئيسية لتحقيق هذا الهدف.
4- إن الولايات المتحدة توافق، بل تشجع إسرائيل علي كل خطوة تخطوها. وبالتالي فإن أي طرف ثالث إما أن يكون صديقا للطرفين، وإما أن يكون خصما للطرفين. أما أن يكون صديقا لأمريكا وعدوا لإسرائيل، فإن هذه المعادلة لا يُمكن أن تكون صحيحة.
5- إن السلاح الأمريكي لا يُمكن أن يستخدم ضد مصالح أمريكا، وبالتالي فإنه لا يُمكن أن يُستخدم ضد إسرائيل، وإن السلاح الأمريكي في أيدي العرب الآن هو أحد الوسائل الأمريكية لنهب ثروات البلاد العربية. أما بخصوص استخدامه، فإن الولايات المتحدة تتخذ سلسلة من الإجراءات لضمان عدم استخدامه ضد إسرائيل، بدءا من النص علي ذلك في شروط البيع، ثم بالسيطرة علي السلاح عن طريق الإشراف الفني والصيانة والإمداد بقطع الغيار، ثم بتجريد السلاح من بعض أجزائه التكميلية الهامة التي تقلل من كفاءته في الأداء، فإذا فشلت كل هذه الاحتياطات وتمرد السلاح ضد الرغبة الأمريكية، فإن إسرائيل تقوم بواجب تدميره فورًا.
6- إن الرأي العام العربي والإسلامي هو عنصر أساسي من عناصر التغيير، وليس من السهل احتوائه بالأقوال دون الأفعال.
7- إن السلاح العربي لن يُمكن حشده في اتجاه إسرائيل إلا في ظل قيادة عربية سياسية واحدة، ولن يتحقق ذلك في المستقبل المنظور. وإلي أن يتحقق ذلك فإننا مطالبون بأن تكون قومية المعركة فعلا وليست شعارا، ويُمكن تحقيق ذلك إذا التزمت الدول العربية بالتزامين: الأول هو تخصيص نسبة مئوية من الدخل القومي لأغراض الدفاع، والثاني هو حشد 25% من قواتها المسلحة بصفة دائمة في مواجهة إسرائيل. وإلي أن يتحقق ذلك فإن عبء الصراع العربي الإسرائيلي سيقع علي كاهل دول المواجهة أو علي بعض منها، وسيبقي شعار قومية المعركة مجرد شعار دعائي.
8- إن قوة أي دولة لا يُمكن قياسها بعدد الدبابات والطائرات التي تملكها وحسب، فالإنسان هو الذي يستخدم تلك الأسلحة، وبدونه فإنها تصبح مجرد أكوام من حديد الخردة، لذا لابد من اهتمام الدول العربية بحقوق مواطنيها والحفاظ علي كرامتهم.
9- إن الخيار العسكري هو الحل الوحيد الممكن لاسترداد الأرض والكرامة، وهو لا يعني أن نبدأ به اليوم أو بعد شهر أو سنة، وإنما يعني أن نصمم علي هذا الخيار وألا نسقطه من حساباتنا أبدا.
10- إن العرب يملكون جميع عناصر القوة التي تمكنهم من تحقيق النصر إذا اتخذوا الخيار العسكري طريقا لهم. ومن هنا بإن الضعف العربي الحالي ليس مرضا مزمنا، بل هو مرض مؤقت يزول بزوال أسبابه، وحينئذ يصبح النصر مؤكدًا.
بقى أن نقول إن الطبعة الأولى من كتاب “الخيار العسكري العربي” قد ظهرت باللغة العربية عام 1984 في الجزائر، حيث كان الشاذلي يعيش هناك طالبا اللجوء السياسي، بعد توقيع الرئيس المصري الراحل أنور السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل، حيث هاجم الشاذلي السادات علنا في مؤتمر صحفي عالمي في مدينة لشبونة بالبرتغال، حيث كان يعمل سفيرا هناك، ومنها ارتحل مباشرة إلي الجزائر منذ عام 1978، ويبدو أنه لم تتوفر طبعات أخري من الكتاب بسبب الحرب التي شنها النظام المصري آنذاك علي الشاذلي بالشكل الذي لم يسمح لهذا الكتاب بالانتشار، وهو غير متوفر في المكتبات حاليا، مما يجعل من عرضه ضرورة حتمية للاستفادة منه، ومن المتوقع أن تقوم عائلة الشاذلي بإعادة طباعة الكتاب في الفترة القادمة بعد نجاح ثورة الخامس والعشرين من يناير وسقوط نظام حسني مبارك، الذي كان يحاصر الفريق الشاذلي ويمنع عنه أي اتصال بالعالم الخارجي أو نشر أي إنتاج له.
إن رؤية الفريق الشاذلي حول الصراع العربي الإسرائيلي، رغم مرور عشرات السنوات عليها، إلا أنها تُعد مرجعا هاما للغاية يجب أن يدرسها ويستفيد منها صانع القرار العربي لوضع استراتيجية لمواجهة إسرائيل، فما أحوجنا الآن إلي جهود مشابهة تقوم بنفس الدور وتتخذ نفس المنهجية للمقارنة بين القدرات العربية والإسرائيلية الآن، لنر كيف يمكن مواجهة المشروع الصهيوني بقدراتنا الحالية، والتذكير بأن الحل الوحيد هو تحقيق الوحدة بين الدول العربية حتي تستطيع هزيمة المشروع الصهيوني. فلابد من تحقيق فكرة “قومية المعركة” بحيث تشمل أكبر عدد ممكن من الدول العربية، خاصة بعد تغير عدد من الأنظمة العربية بفضل ثورات الربيع العربي، فهل يمكن للتيار الذي يحكم الآن في أكثر من بلد عربي أن ينفذ ما طالب به الشاذلي؟
تمت كتابة هذا المقال على موقع “راديو حريتنا” بتاريخ 7 مايو، 2012