“صناعة الانتخابات”: بؤس الصانع والمصنوع
هناك مثل شعبي عالمي يقول فيما معناه “لو نظرت إلى داخل المطبخ فلن تزور هذا المطعم ثانية” لأن عملية إعداد الطعام في دهاليز المطابخ لا تخلو من المشاهد المقززة ولكن الطبق يصل إلى طاولة الزبون في أبهى صورة. هذا ما أراد الفيلم الوثائقي الجديد الذي يحمل عنوان “صناعة الانتخابات” والذي أنتجته الجزيرة الوثائقية وأخرجه أحمد شلبي. فقد تناول الفيلم آخر انتخابات مصرية (2010) قبل الثورة حيث تجاوز المشهد الانتخابي الخارجي وغاص في دهاليز العمل الانتخابي و”حواريه” لنكتشف معه عالما من التنظيم له أصوله التي يتوافق عليها الجميع ويخترقها الجميع. وله جنده الذين لا نراهم بل نرى انتصاراتهم إن انتصر “سعادة النائب” وننسى هزائمهم إذا خسر “سعادته”.
الفراشون والخطاطون والشعراء الشعبيون والفنانون والحراس وكذلك “البلطجية” هؤلاء كلهم يشكلون المصانع الانتخابية. زارهم الفيلم في أماكنهم.. أماكن التصنيع والتدوير وتعليب الأصوات وشرائها وتسويقها في موسم الانتخاب.
عنوان الفيلم بين الحقيقة والمجاز
لئن كان عنوان الفيلم هو صناعة الانتخابات فإن الكلمة التي رددها الجميع في الفيلم هي كلمة “موسم الانتخابات”. والمواسم في الأصل تصنعها الطبيعة وينظم الناس بها زمنهم ثم تصنعها الثقافة وخاصة الدينية لينظم المجتمع احتفالياته.. و”الموسم” في التراث المصري مرتبط أساسا بالتراث الصوفي الديني الشعبي وما يتضمنه من احتفاليات بمناسبة ذكرى الأولياء الصالحين والمولد النبوي الشريف. في هذا الموسم يكثر الشطح حتى الغياب عن الوعي كما تكثر ثقافة الخوارق والشعوذة والكرامات والألعاب البهلوانية ويتحرك الاقتصاد الشعبي وأهم وظيفة تتحقق هي أن الفقراء يأكلون ويشربون ويشبعون في بطونهم ويمتلئون بالوهم في خيالاتهم وعقولهم في انتظار الموسم القادم.
المخرج اختار مصطلح الصناعة ليخرج في مقاربته للموضع من الظاهرة الاجتماعية الاعتباطية (الموسم) إلى الظاهرة الاجتماعية الممأسسة وذلك حينما تتحول الانتخابات إلى صناعة لها صناع محترفون ومصانع تديرها. مما يوحي بأننا أمام ممارسة متطورة ومعقلنة اسمها صناعة الانتخابات وهذا شأن كل الانتخابات الديمقراطية في العالم رغم إصرار شخوص الفيلم بتسميتها بالموسم وإرجاعها إلى أرضية ثقافية واجتماعية مشتركة.. ولكن مسار الفيلم وتنويع المشتغلين في هذا “المصنع” حتى نهايته ينزع من كلمة صناعة كل معنى حديث ومتطور ليثبت الفيلم قناعة الشعوب حول مهزلة الانتخابات العربية في ظل الدكتاتوريات. ثم تنكسر دلالة الصناعة أمام الدلالة القوية لكملة الموسم. فلم يكن العنوان إلا مجازا لحقيقة هي “الموسم”. وبين الحقيقة والمجاز ضاعت الديمقراطية لتصبح خلال الفيلم استعارة لكوميديا سوداء. وينتهي الفيلم بشعوذة سياسية أبطالها رئيس الحزب الوطني الحاكم أحمد عز ثم رئيس الدولة وبطل الموسم وكل المواسم طيلة عقود حسني مبارك.
الشخوص والأمكنة.. وإعادة إنتاج التناقضات
يختار الفيلم بطلا “صانعا” أو “صاحب مصنع” انتخابي. قدم نفسه بأنه محمد عبد العزيز الكحلاوي هو في الأصل بائع تحف ولكنه متخصص في الانتخابات ينقطع إليها في “مواسمها” ويترك التحف. والدلالة الرمزية في اختيار بائع تحف من صناع آخرين قوية في تقديري. رجل يبيع التحف التي هي نسخة جميلة لعمل أصيل ثم يصنع الانتخابات التي هي نسخة مشوهة لديمقراطية مأمولة. وسواء كان المخرج مدركا لهذا التماثل الرمزي داخل شخصيته المركزية في الفيلم أو كان اختياره اعتباطيا، فإنه توفق في الاختيار. وكانت شخصية بائع التحف – صانع الانتخابات شخصية مركزية تدور حولها الكاميرا وليس الأحداث. هو دليلنا إلى “الفرّاش” وهو سبيلنا نحو الخطاط ونحو المطبعة ولكننا نفتقده عندما يتعلق الأمر بالنائب وخاصة إذا كان من المعارضة أو عندما يتعلق الأمر بالبلطجية. يغيب الصانع على عتبات المحظور السياسي (المعارضة والعنف).
هذا الصانع- بائع التحف من ملامح ووجهه ومعجم خطابه يبدو فعلا صانعا ولا علاقة له بمضامين الخطابات السياسية ولا بالديمقراطية التي من المفترض أنه يساهم فيها من خلال صناعة أهم وسيلة لتحقيق الديمقراطية وهي الانتخابات.
أما ملامح وجهه فتحيل على العامل المصري البسيط الذي نشاهده يوميا على المقاهي يتأمل كأس الشاي باحثا فيه عن حل للعبة الحياة التي يحياها. كما أن هندامه ولباسه ببساطته يقصيه من المشهد الانتخابي البراق ويجعله في خلفية ستار السرادق الانتخابي. وبهذا يكون الشخصية المختارة شخصية نموذجية لصانع انتخابات يتميز بالهدوء والبساطة ولكنه يعرف خيوط صناعته ويحسن تنسيقها. راض بوضعه ككائن يقع خارج اللعبة بالفعل، لكنه حاضر فيها بالقوة قد يعلي وقد يخفض.
لقد اجتهد هذا الوثائقي في دقة اختيار النماذج الفاعلة والجامعة للموضوع المطروح. وتدرجنا في التعرف عليها من العام إلى الخاص. حيث تعرفنا على مهندس الحملة ثم على عناصر التنظيم من الفراشين إلى الخطاط إلى صاحب مطبعة الشعارات والصور ثم ننتقل إلى الشاعر والفنان والملحن وصولا إلى البلطجية التي كانت هذه المرة امرأة. على عكس الصورة الذكورية المتوحشة للبلطجي في المتخيل السياسي. وهذا أيضا له دلالته حيث يصبح العنصر الأنثوي في المشهد مسلوبا من كل أنوثته لأن الصانع شوه كل شيء في صناعته واصطنع أنثى جديدة ليست هي أنثى مصر الجميلة والرقيقة.
هذا التدرج في الشخوص أحدث تنوعا في الأمكنة فكان كل مكان لائقا بوظيفة صاحبه من محل شعبي للفراش إلى مشغل الخطاط إلى بيت الشاعر الشعبي ثم بيت الملحن وهي كلها أمكان واضحة ومضيئة ووجوه أصحابها ناصعة إلى أن نصل إلى البلطجية حيث يسود الظلام وتتحدث المرأة في جو داكن وإضاءة ليلية ولا نرى إلا جزءا من وجهها لأنها لا تتوجه إلى الكاميرا فكانت في موضع المتهم المجرم وكان جو الحوار يحيل على التآمر والوقوع في المحظور.
اللافت في المرور عبر هذا الكم الكبير من المشاركين في صناعة الانتخابات في الفيلم هو ضعف حضور صاحب الشأن وهو “سعادة النائب” ففي الفيلم يحضر الصانع- بائع التحف أكثر من النائب نفسه. وهو نائب الحزب الوطني الحاكم. وحضور النائب كان نمطيا في مستوى الخطاب حيث يقول نفس الكلام ويردد نفس الوعود السياسية وما يوهم بالتحلي بالموضوعية في كلامه والإيمان بالديمقراطية وكل تلك الشعارات السياسية المعروفة زمن الانتخابات. كما كان نمطيا في لباسه حيث نحن أمام نائب مصري لطالما نقدته السينما والدراما المصرية وسخرت منه. يرتدي “جلابية” شعبية ويتجول في الحواري الفقيرة يحيط به الفقراء مرتدو “الجلابيات”. أما بيته فيبدو عليه الثراء والتخمة المادية. فيعيد الفيلم إنتاج السينما الروائية في هذا الشأن تلك السينما التي لطالما ركزت على التناقض بين حياة النائب الملكية الناعمة وخطابه حول الفقراء بشكل شعبوي مكرر. لتفضح هذه الهوة وتشكك في خطابه.
في حين بدا نائب الإخوان بلباس حديث ويتحدث بشيء من العقلنة على الحملة الانتخابية جالسا في مكان متواضع يوحي بالثقافة والفكر. وهذا التقابل بين صورتي نائب الحزب الحاكم ونائب المعارضة (الإخوان) سواء كان يعكس وجهة نظر المخرج السياسية أم لا ، فإنها تظل وجهة نظر المثقف المصري أو جزءا من المثقفين المصريين وعبروا عنها شعرا وسينما. هي مقابلة بين مشروعين سياسيين وثقافيين.. مشروع السلطة التي لاتنفك ترتدي نفس الجلابية وبين المعارضة التي تحاول أن تنوع لباسها وتطوره. وجاءت هذه المقابلة في الفيلم سلسة وغير فجة.
الخط الدرامي.. ودراماتيكية الصناعة
يبدأ الفيلم بملخص نستمع فيه لأغلب الشخصيات ومن خلال هذا الملخص نتعرف تقريبا على الخطوط العريضة لما سنشاهده فيما بعد. ما يظل المشاهد يتتبعه هو الخط الدرامي الذي سيجمع تفاصيل كثيرة ويراكمها داخل الأحداث وفق رؤية للسيناريو ورؤية إخراجية خاصة.
وكأن موضوع الفيلم بتعقيداته السياسية والاجتماعية والفنية والأمنية وغيرها قد فرض تقسيما يمكن أن نسميه جدوليا مع تقاطع الجداول. أي قسّم المخرج شخوصه وأمكنته وفق جداول الوظائف بطريقة منطقية وواقعية بحسب المراحل المعروفة للحملة الانتخابية. فبدأ بمنظم الحملة وخصص له جدولا سار فيه ثم المعدّين للفضاءات والأمكنة من فراشين وغيرهم لهم جدولهم. ثم الخطاطون ثم جدول الشعراء والفن والملحنين ثم جدول الأمن والعنف والبلطجية. هذه الجداول تقاطعات ولم تسر بشكل متواز. تقاطعت وفق سير الحملة الانتخابية ومراحلها التي كانت المتحكمة في الخط الدرامي.
تنفتح الكاميرا على صانع الانتخابات- بائع التحف وهو في الحي الشعبي يضبط أموره ويغري النائب والناخب معا ويوزع المهام والأمكنة. وانتهينا بصانع السياسة رئيس الدولة الصانع الكبير حسني مبارك وهو في مجلس النواب يقول نكتا ويضحك النواب الذين عليهم أن يضحكوا طوعا أو قهرا مادام الصانع يضحك.. ولكن هناك ضحكة أخرى عريضة ومرة هي ضحكة المشاهد وهو على المقهى يرتشف شايه ولكن الضحكة الماكرة المتوقعة هي ضحكة صانع الانتخابات – بائع التحف الذي صنع صورة النائب ورئيس النائب وما يصنعه يعرضه الصانع الكبير في مجلس النواب مثلما يعرض بائع التحف تحفه جوفاء من المعنى ولكنها جميلة المظهر.
تصاعدنا من الهدوء والتوافقات والعقود مرورا بالخط العربي وتموجاته على القماش ثم المعلقات وجمالياتها وتسارع حركة الطباعة والإخراج ثم نغم السياسة وألحانها وأشعار الشعراء.. وكلما اقترب يوم الانتخابات كلما بدأت حركة الأحداث تتوتر وتوحي بحدوث شيء ما. والتجأ الفيلم في ذروة الحدث إلى الخلفيات الأرشيفية حيث جاءت لقطات العنف واقعية وصادمة وصارخة تضاهي مشهد المرأة “البلطجية” وهي تروي في الظلام ما تؤمر به أثناء الانتخابات.. وهي تقول معترفة “كل ما نعملوا في الانتخابات بيغضب ربنا”.
ثم تعاضدها مشاهد من فيلم روائي هزلي “خالتي فرنسا” لتعميق صورة المهزلة الانتخابية وإفلاس الصناعة التي يبني لها الفيلم قليلا قليلا منذ بدايته وعبر خطّه الدرامي. ثم تأتي في نهاية المشهد افتخارات أحمد عز بالانتصار مزهوا بإنجازه الديمقراطي بعيدا عن “الشبهات” وننتهي بابتسامات وضحكات مبارك وتصفيق النواب في مشهد تغيب فيه الأصوات السياسية المعارضة ليلتقي الصانع الأكبر في مشهد فريد مع نواب هم من صناعة يديه.
وكما بدأ الفيلم ببائع تحف صانع للانتخابات، ينتهي بمالك البلاد في تحفة فنية مزيفة اسمها مجلس النواب. وبين بائع التحف- صانع الانتخابات ورئيس الدولة صانع المشهد والنواب، تفجر اللغة من الكلمة مهازل حياتنا السياسية بين الصناعة والاصطناع والمصطنع وكل ما يمكن أن يكون مصنوعا مصطنعا.
يبدأ الفيلم بالصناعة وينتهي عند التصنع…
فكان المشهد يحمل في داخله بوادر الأزمة والانفجار لتنطلق الثورة بلافتات أخرى لم تحتج خطاطين ولا مطابع وبأهازيج أخرى لم تحتج شعراء عند الطلب ولا ملحنين يقبضون من اللحن مالا.. هتف الشباب في التحرير “ارحل” ثم هتفوا بالديمقراطية في مشهد لا يتكرر مثل مشاهد الانتخابات التي صنعتا أيدي شخوص الفيلم.. ينتهي الفيلم بتغير حتمي للمشهد وتغيرت معه اللافتات ولكن هل تغيرت المصانع الانتخابية؟ أو هل أن تلك المصانع مؤهلة لديمقراطية حقيقة في مصر.. لأنه إذا كان المحرك خربا لا ينفع معه السائق الماهر.
نشره اسامة الرشيدي على موقع الجزيرة الوثائقية- 28 نوفمبر 2011