ماذا علمتني الحياة؟
هي سيرة ذاتية مختلفة صريحة فيها نقد ذاتي عنيف للنفس والأسرة والأخوات، وهذا الكتاب هو أقرب إلى عمل أدبي يحمل تحليلا عميقا للنفس البشرية، ولم يخيب الكاتب الكبير (جلال أمين) ظن المتابعين له ولفكره، فأتى هذا الكتاب (ماذا علمتني الحياة) ليحوي سيرته الذاتية وكثير من آرائه في الحياة وتحليلا لظروف مصر السياسة والاقتصادية والاجتماعية خلال خمسين عاما.
يروي جلال أمين قصة نشأته في بيت والده وعلاقته بأسرته واخوته وأصدقاء الصبا، ودراسته بكلية حقوق عين شمس، ثم سفره للبعثة في إنجلترا وقصة زواجه وعمله بالكويت، كما يتناول بالتحليل شخصيات كثيرة قابلها في حياته ذاكرا رأيه فيها بمنتهى الصراحة وصلت في بعض الأحيان إلى القسوة عند الحديث عن بعضهم مثل رفعت المحجوب وأنور السادات وثروت أباظة.
وقد ذكر رأيه في كثير من الشخصيات التي عرفها إما سلبا أو إيجابا بجرأة تحسب له، كما روى قصة انضمامه لحزب البعث في فترة شبابه ثم انفصاله عنه بعد فترة.
يخبرنا جلال أمين في البداية أنه لم يذكر جميع الأحداث التي مر بها في حياته، وإنما ذكر بعضها فقط مما قد يكون ذكره مفيدا أو له مغزى خاص أو معنى فلسفي ما، ويمتاز أسلوبه ببساطة اللغة ووضوحها ودقتها في الوقت نفسه.
كما يلحظ القارئ موقفه الأخلاقي القوى في تناوله للأحداث، الذي يبدو أنه قد ورثه عن والده أحمد أمين المفكر الكبير، كما نلاحظ من العنوان (ماذا علمتني الحياة؟) تواضعا من صاحب الكتاب، إذ يؤكد أنه ما جاء إلى الحياة وما عاشها إلا ليتعلم منها.
النشأة
من أكثر أجزاء الكتاب لفتا للانتباه ذلك الجزء الذي تناول فيه نشأته في الصغر، فمن النادر أن يتناول أحد العلاقة بين والده ووالدته بمثل تلك الجرأة التي تناولها بها جلال أمين، ففي البداية يروي قصة زواج والده التقليدية من والدته، حيث لا مكان للحب أو العواطف، فهو مجرد زواج تقليدي مثل زيجات ذلك العصر، وروى أيضا قصة الحب التي جمعت بين والدته وقريبها قبل زواجها من والده، وفشل تلك العلاقة، حيث ظلت والدته تكرر تلك القصة كل فترة، وروى جلال أمين أيضا كيف كانت والدته تخاف دائما من أن يطلقها والده ويتركها بلا مورد، فانطلقت تدخر المال من مصروف البيت حتى تستطيع تأمين نفسها، ووصف العلاقة بينهما بأنها كانت أشبه بعلاقة المتصارعين. أيضا يحلل شخصيات أخوته واحدا بعد الآخر تحليلا عميقا وبموضوعية شديدة.
أيضا تناول الكاتب بالنقد حال التعليم في مصر في الخمسينات، ويصف بؤس حال التعليم والكلية، حيث لا يوجد نشاط جامعي من أي نوع، ولا توجد أي علاقة بين الطلبة والأساتذة الذين يقومون بشرح المحاضرات بدون أي حماس، ومعظمهم يظل يقرأ من الكتاب الذي أمامه، والنجاح في المواد يعتمد على قراءة الكتاب قراءة جيدة ليس إلا، وقد وجد العكس تماما في بعثته في إنجلترا لنيل درجة الدكتوراه.
من الأمور النادرة أن نرى أحدا ينتقد رسالته للدكتوراه بهذا العنف، فقد هاجمها جلال أمين في كتابه بشدة واعتبرها غير ذات قيمة على الإطلاق، وأنها كانت تافهة، وأنه قد أنجزها ليجتاز فقط متطلبات الحصول على الشهادة، حيث كان من شروط الحصول على الدكتوراه أن يكون موضوع الرسالة مبتكرا لم يتطرق إليه أحد من قبل، مهما كان هذا الشيء المبتكر تافها وعديم القيمة، مع كتابة بعض المعادلات الرياضية حتى تكتسب الرسالة الاحترام اللازم، وليس من المهم بعد ذلك أن تكون الرسالة مهمة عمليا في الحقيقة أو تكون مفيدة في حل أي مشكلة في الواقع، حتى فترة الدكتوراه نفسها وقراءاته خلالها، وصف أكثر ما قرأه خلالها بأنه كان غير ذو قيمة وقليل الفائدة إلا من حيث حصوله على الشهادة، وينصحنا الكاتب بأن نضع ثقتنا لا في الكتاب مهما بدا جذابا في اسمه أو موضوعه بل في مؤلفه، وأن عدد هؤلاء الكتاب أقل بكثير مما نظن.
عبد الناصر وثورة يوليو
من المعتاد أن يكون هناك من هو منحاز لعبد الناصر انحيازا مطلقا أو يكن له عداء عنيفا له، ولكن تناول الكاتب موقفه من ثورة يوليو بموضوعية شديدة جدا وفي منتهى الواقعية، فقد ابتهج في البداية بالثورة بشدة، ثم تحول بعد ذلك إلى خيبة أمل بعد عزل محمد نجيب، واشترك في اعتصام للطلبة يطالبون فيه بعودة محمد نجيب، وأبدى شكه في حادث المنشية عام 1954، ثم تحول الموقف إلى حماس للثورة مع تأميم قناة السويس ومؤتمر باندونج، ثم بلغ الحماس أوجه مع القوانين الاشتراكية في بداية الستينات، وبزوغ نجم القومية العربية، وإعادة توزيع الدخل على الرغم من نمو الديكتاتورية والنظام البوليسي، ثم كانت نكسة 67 هي الكافية ليفقد أي تعاطف مع نظام عبد الناصر، حيث أصيب جيله كله بالذهول من تلك الهزيمة، وقد خاب أمله في الثورة في النهاية، واستقبل خبر وفاة عبد الناصر بهدوء شديد.
من بين النتائج التي سيخرج منها قارئ (ماذا علمتني الحياة؟) هو كذب ما يسمى (الزمن الجميل) حيث تسود تلك النغمة من الكبار بلا استثناء، حيث يصفون زمانهم بأنه كان (الزمن الجميل) حيث كان كل الناس تحب بعضهم ولم تكن هناك مشاعر كره أو حقد بين الناس، وكان التعليم نموذجيا.. إلخ
يكذب جلال أمين كل تلك المقولات، حيث وصف بدقة علاقة الوالد بالوالدة، وحال التعليم أيامه، وكل ذلك لا يختلف عما نحن فيه الآن، فلم يكن هناك حب أو مودة بين الوالدين، وكانت حال التعليم سيئة على نحو ما أوضحنا سابقا، فكل عصر به إيجابيات وسلبيات، ولا يوجد (زمن ردئ) و(زمن جميل).
البدايات والنهايات
كتب جلال أمين فصلا طويلا بعنوان (البدايات والنهايات) حول خيبة الأمل التي يشعر بها الإنسان في أواخر حياته، ويتأمل حياته فيجدها مليئة بالأمثلة على خيبة الأمل سواء على المستوى الشخصي أو المستوى العام، ويؤكد أن ذلك هو حال كل من عرفهم وكل أفراد أسرته، حتى من كان أكثرهم نجاحا، فكم علق الكاتب آمالا على تغير سياسي في مصر ثم ظهر أن الأحوال أصبحت أسوأ مما كانت عليه من قبل، ويستعرض جلال أمين خيبات الأمل التي تعرض لها، بداية من خيبة أمله في العلم، حيث وضح له تأثر العلماء بالتحيزات والأهواء، وصار موقنا بأن المعرفة معناها المزيد من خيبة الأمل، أيضا خاب أمل الكاتب في علم الاقتصاد الذي يعمل أستاذا له، فالاقتصاد لا يستطيع أن يمد أحدا بمعرفة يقينية، كما يمكنه أن يفسر الشيء ونقيضه بنفس النظرية، وما أكثر الكتب التي قرأها ولم تكن ذات فائدة على الإطلاق، خاصة في علم الاقتصاد.
أيضا خاب أمل الكاتب في ثورة يوليو وفي نتائجها النهائية، كما لم يعد يشعر بالسعادة برؤية اسمه على كتاب أو مقال جديد حيث اعتاد ذلك الشعور كثيرا، وصار مع الوقت أكثر اقتناعا بأنه (لا شيء يهم) وأنه قد كان مهتما بأمور كثيرة ثبت له مع الأيام أنها لا أهمية لها.
جلال أمين يؤكد أن هذا الشعور سيكون هو الغالب دائما على كل شخص في نهاية حياته، وقد رأى تلك الخيبة في والديه وأخوته، كما يلاحظ أن ذلك الشعور يزداد بقوة بين الأجيال الجديدة ويبدأ لديهم مبكرا جدا، ربما بعد تخرجهم بسنوات قليلة.
ويبدي جلال أمين رأيه في النظم الرأسمالية في الدول الغربية، موضحا أنها قد بدأت في التحول إلى شمولية من نوع آخر، فوسائل الإعلام تسيطر على الجماهير الغربية بشكل رهيب، ويبدو الأوروبيون والأمريكيون أكثر استعدادا بكثير من الشعوب الأخرى لتصديق ما تقوله لهم وسائل الإعلام، كما تنتشر قيم المجتمع الاستهلاكي، مما يجعل من المواطنين عبيدا للآلة الاستهلاكية.
وبأسلوب رشيق يصف دول الخليج بأنها (بلاد مصطنعة ومختلقة اختلاقا) وأن من يعيش فيها يشعر بخواء نفسي رهيب لا يستطيع تعويضه بالأموال التي يحصل عليها من عمله هناك، حيث عمل جلال أمين لفترة في الصندوق الاجتماعي للتنمية بالكويت.
الكتاب ملئ بالأفكار والتحليلات الممتعة والمختلفة، وهو من نوعية الكتب التي يقول عنها جورج اورويل (الكتاب الجيد هو الذي يمدك بالحجج التي تحتاجها لتأييد وجهة نظرك)! وهي عبارة وردت في الكتاب، حيث يعتبر جلال أمين نفسه من المعجبين بشدة بجورج أورويل الذي يقول أيضا (الكتاب الجيد هو الذي يقول لك ما كنت تعرفه من قبل).
اسم الكتاب: ماذا علمتني الحياة؟
المؤلف: جلال أمين
القاهرة: دار الشروق 2007
400 صفحة
____
كتبه اسامة الدسوقي على موقع زمش بتاريخ اكتوبر 2007