
مع تطور تكنولوجيا الهواتف المحمولة، واحتوائها على كاميرات متقدمة تعطي صوراً واضحة، تحولت أجهزة التليفونات المحمولة إلى أعدى أعداء أجهزة الأمن المصرية، وأصبحت الموبايلات تُشكل هاجساً في العديد من أقسام الشرطة المصرية لما سببته من فضائح عديدة وإحراج بالغ لوزارة الداخلية، حيث تسببت كاميرات التليفونات المحمولة في فضح الكثير من وقائع التعذيب في مصر، وكذلك تصوير ما يتعرض له المتظاهرون من ضرب واعتداءات من قبل جنود الأمن.
أما في الفترة الأخيرة فقد ظهر الموبايل مره أخرى في قضيتين هي قضية تعذيب (رمضان عنتر) داخل قسم محرم بك بالإسكندرية وتعذيب السجين (جابر سلامة) داخل سجن استئناف القاهرة.
آخر القضايا
أثناء تواجد (رمضان عنتر) في قسم شرطة (محرم بك) بالإسكندرية لإنهاء إجراءات إخلاء سبيله في واقعة ضرب، شاهده المُلازم أول محمد شلبي، وأمره أن يجلس القُرفصاء، ولكن المجني عليه رفض بسبب وجود ألم في ساقه، فوجه له الضابط سيلاً من الشتائم، وحضر المُقدم (أمجد صبحي) واشترك مع المُلازم أول (محمد شلبي) في الاعتداء على المجني عليه بالضرب ووضعه في الحجز، بعد ذلك أمر مُعاون مباحث القسم الضابط (شادي الإسلام) بإخراج المجني عليه وإحضاره لفرقة المباحث، حيث وضع كلابشات في يد المجني عليه ثم قام بتجريده من ملابسه، وقام بضربه بمفتاح سيارته، وقد تصادف وجود أحد المسجونين داخل الغرفة، ويدعى (لطفي كامل جاب الله) الذي نصحه بتصويره وهو في هذه الحالة، وإبلاغ النيابة فور مغادرته القسم، وبالفعل قام بتصوير المجني عليه عارياً وبه إصابات التعذيب، حيث قام بتصوير مقطعين، الأول مُدته دقيقة و16 ثانية، والثاني مُدته 35 ثانية.
وفور مغادرة المجني عليه القسم تقدم ببلاغ إلى مدير نيابة محرم بك اتهم فيه ضباط القسم بتعذيبه وهتك عرضه داخل القسم، وعثرت النيابة داخل القسم على ملابس المجني عليه وعليها آثار دماء، و4 عصى غليظة تستخدم في التعذيب وكُرباج جلد، وبدأت النيابة التحقيقات مع ضباط القسم، وتأكدت النيابة من أن ملامح الغرفة هي نفس ملامح الغرفة التي ظهرت في الكليب.
إلا أن المجني عليه قد تقدم بطلب للتنازل عن البلاغ، وعاد وتمسك به بعد ذلك حيث قال إنه تعرض لضغوط أمنية للتنازل عن البلاغ، إلا أن الشهود أصروا على أقوالهم، وهو شيء يدعو للدهشة فالمجني عليه (مُسجل خطر) ومن المفترض أن هؤلاء يعتبرون التعذيب عادياً ويحدث لهم في الأقسام كثيراً، ولكن هذه القضية تظهر بوضوح أن مقاومة التعذيب ورفضه تنتشر بسرعة بين المواطنين وحتى بين الفئات التي يعتقد كثير من الناس أنهم يستحقون ذلك، مثل المُسجلين خطر والمسجونين الجنائيين، أيضاً تمسُك الشهود بأقوالهم يوضح إلى أي مدى أصبح المواطنون مصممين على مقاومة السلطة ورفض الظلم في مصر بعد أن كانوا يرتضون الإهانات قبل ذلك، على أثر ذلك شددت جميع أقسام الشرطة في الإسكندرية على منع المواطنين المترددين على الأقسام من الدخول لديوان القسم بالتليفون المحمول خاصة المزود بكاميرا.
رد فعل الشرطة طبيعي تماماً، فهم يعلمون يقيناً أن التعذيب يحدث بصورة منهجية ومنظمة، وهي الطريقة الأساسية والرئيسية لانتزاع الاعترافات من المُتهمين وإنهاء القضايا، وبدونه لن يستطيعوا إلا إنهاء قضايا قليلة، بالإضافة إلى أن أركان القضايا تكون عادة ضعيفة بسبب ضعف أساليب التحريات والبحث الجنائي، فيلجأ الضباط إلى انتزاع الاعتراف من المُشتبه بهم حتى يستطيعوا إحالة القضية إلى المحكمة.
الطريف في هذه الواقعة هو رد فعل مصدر أمني حول الواقعة حيث قرر أن المجني عليه أصابته حالة هياج أثناء وجوده بالقسم، وتدخل أحد ضباط القسم لمحاولة تهدئته، وقام أحد المواطنين بتصويره وهو في تلك الحالة؛ على العموم فإن الضباط تحولوا إلى مطاردة التليفونات المحمولة ومنع دخولها إلى أماكن عملهم وشعارهم (امسك موبايل).
كان للتليفون المحمول أيضاً دور في البلاغ المُقدم من (سلامة حنفي إسماعيل) إلى وزير الداخلية والنائب العام، وتُحقق فيه نيابة الدرب الأحمر، حيث اتهم صاحب البلاغ مسؤولي سجن استئناف القاهرة بتعذيب ابنه داخل السجن، حيث فوجئ أثناء نزول ابنه من سيارة الترحيلات لمُحاكمته في قضية سلاح بأنه يتوكأ على سجينين، وبمجرد أن وضع يده على جسده فوجئ بالابن يصرخ من شدة الألم حيث اكتشف الأب أثار تعذيب وإطفاء السجائر في جسد ابنه، وآثار الحبال على قدميه، وقد قام الأب بتصوير آثار التعذيب على قدمي ابنه بواسطة كاميرا موبايل الخاصة به وقدم الصور للنيابة، وتحقق النيابة في هذا البلاغ.
المدهش أيضاً في تلك القضية هي تمسُك الأب بموقفه وعدم رضوخه للتهديدات والمُساومات من الضباط، رغم التضييق على ابنه لدفعه للتنازل عن البلاغ، حيث قال الأب بثقة شديدة (لم أرضخ لهذه التهديدات لأن هناك حتماً قانوناً سوف يحميني أنا وابني إذا ما تعرض له أي شخص بالإيذاء).
تعكس تلك الجملة ثقة لدى الأب بأنه بتمسكه ببلاغه سوف يأخذ حقه، وهو ما يُعد تغييراً في سلوك وعقلية المواطنين الذين كانوا يُفضلون عادة التنازل عن البلاغ مقابل تعويض مالي وترضية مناسبة، ويدل ذلك أيضاً على أن المصريين أصبحت عندهم الكرامة أغلى من المال.
ولكن هل ظهرت أهمية الموبايلات المُزودة بكاميرا نتيجة تصوير المواطنين فقط؟ ما يمكن أن نسميه بـ(تاريخ كليبات التعذيب) ينفي ذلك، فمعظم هذه الكليبات من تصوير الضباط أنفسهم، إما للفخر بها أو لإشباع رغبات سادية في أنفسهم.
تُعتبر مدونة (الوعي المصري) هي الرائدة في كشف كليبات التعذيب وهي تقريباً المدونة الوحيدة التي حصلت على هذه الكليبات ونشرتها أولاً ثم أخذت منها باقي المدونات ووسائل الإعلام الأخرى تلك الكليبات.
أولى الكليبات، لضابط شرطة يقوم بصفع أحد المواطنين 16 صفعة متتالية، ويقوم بتوجيه حركة بذيئة له، وقامت جريدة الدستور الأسبوعية بنشر موضوع عن هذا الكليب وتم التعرف على الضابط والقسم الذي وقع فيه المشهد وهو قسم الهرم، وبعد ذلك نشر الموقع عدة كليبات متتالية معظمها تحتوي على مشاهد لأمناء شرطة يقومون بصفع المواطنين على مؤخرات أعناقهم، إما بأوامر من أحد الضباط أو بأنفسهم.
وقد استطاعت جريدة (المصري اليوم) التعرف على إحدى ضحايا هذه الكليبات وأطلقت عليه اسم (كليب القفا) وقامت بعمل حوار صحفي معه، ليتحول الأمر إلى قضية اتهم فيها أحد الضباط ويدعى (كريم فارس) وأمين شرطة يدعى (أحمد عبد الفتاح) وصدر حُكم من المحكمة بحبس أمين الشرطة سنة، وبراءة الضابط، لتقوم النيابة باستئناف الحكم، ومازالت القضية منظورة أمام المحاكم.
كما نشرت المدونة مقطع فيديو لسيدة تتعرض للضرب بعصا من أحد المُخبرين، وقد استطاع (ناصر أمين) مدير مركز استقلال القضاء والمحاماة التوصل إلى ضحية هذا المشهد واتضح أنها موظفة باتحاد الإذاعة والتلفزيون، وقد تعرضت لذلك بإيعاز من مديرها في العمل، وعندما تم التوجه إليها رفضت التقدم ببلاغ للتحقيق فيما تعرضت له.
أما الكليب الذي أثار ضجة شديدة، فكان مقطع فيديو لسائق ميكروباص مربوط من ساقيه وقد تعرى نصفه الأسفل وحوله عدد من أمناء الشرطة وأحد الضباط، وقام الضابط بإدخال عصا في مؤخرة السائق الذي كان يصرخ ويتوسل له أن يكُف، بينما يقوم الضابط بتوجيه شتائم بذيئة له، وهو ما دعا جريدة الفجر الأسبوعية لتبني الموضوع حيث قام الكاتب (وائل عبد الفتاح) بنشر صور هذه الكليبات، وكتب عدداً من المقالات حول هذا الموضوع وناشد الضحية عدم السكوت والتقدم ببلاغ حول الحادث.
إلا أن السائق فاجأ الجميع بتقديم بلاغاً ضد الجريدة يتهمها بنشر أخبار كاذبة عنه، وعندما تم استدعاؤه ومواجهته بالفيديو الذي تظهر فيه صورته بوضوح طلب السائق من وكيل النيابة حمايته فأخبره وكيل النيابة أنه بأمان، فاعترف السائق أنه تعرض لهتك عرضه عن طريق أحد الضباط ويدعى (إسلام نبيه) نتيجة تدخله لمساعدة ابن عمه في شجاره مع أحد أمناء الشرطة، وأن الضابط أخبره أن هذا الفيديو سيوزع لزملائه السائقين ليكون عِبرة لمَن يعتبر، وعندما نشرت جريدة الفجر عن موضوع استدعاء الضابط وأجبره على التقدم ببلاغ ضد الجريدة مقابل حمايته وترضيته.
وقد أدى ذلك إلى بدء محاكمة الضابط (إسلام نبيه)، وقد أكد خبير الأصوات أن صوت الضابط في الكليب هو نفس صوت الضابط المتهم، ومازالت القضية منظورة أمام المحاكم.
بعد ذلك نشرت مدونة (الوعي المصري) أيضاً مقطع فيديو لفتاة مُعلقة بين كرسيين ومربوطة من ساقيها وقدميها، وهو أحد أساليب التعذيب المعروفة في أقسام الشرطة، وفي هذا الكليب قامت الفتاة بالصراخ والتوسل للضابط أن يفُك رباط يدها وساقيها، وبعد ذلك قامت بالاعتراف بقتل أحد الأشخاص تحت ضغط التعذيب، وقد نشرت جريدة (المصري اليوم) صوراً للكليب في صدر صفحتها الأولى وتفاصيل حول الكليب، مما جعل وزير الداخلية يُصدر توجيهات إلى أجهزة البحث الجنائي بالبحث عن الفتاة وبدأ التحقيق في الموضوع، ولم يتم التوصل إلى نتيجة حتى الآن.
وقد قامت جريدة المصري اليوم بعد ذلك بنشر حوار مع وائل عباس صاحب المدونة التي نشرت الكليب. وأيضا قامت جريدة المصري اليوم نقلاً عن (الوعي المصري) بنشر لفيديو حزب جماعي لمجموعة من المواطنين في أحد أقسام الشرطة.
وقد وصل عدد الكليبات إلى حوالي 11 كليب تعذيب، كل تلك الكليبات كانت من تصوير الضباط أو أمناء الشرطة، وعلى ما يبدو فقد تعلم المواطنون ذلك من الضباط وأصبحوا يصورون ما يحدث داخل الأقسام ليقوموا بفضح ما يحدث أمام وسائل الإعلام.
لعبت الموبايلات دوراً مهماً في تصوير المُظاهرات والعنف الأمني ضد المتظاهرين، ويقوم بالتصوير بشكل أساسي المدونون وينشرونها على مدوناتهم وأيضاً على الموقع الأشهر في عالم الفيديو (YouTube) الذي يحتوي على كل ما يخطر على البال من فيديوهات.
يحتوي الموقع على عشرات المقاطع تصور قمع المتظاهرين وضربهم بالعصى وخراطيم المياه، واعتداء جنود الأمن المركزي على المتظاهرين منها فيديو يصور حزب أحد نشطاء كفاية في إحدى المظاهرات.
الآن أصبح بإمكان أي شخص تصوير ما يلفت انتباهه ونشره على مدونته أو رفعه على موقع (YouTube).
وتهتم حركة (مصريون ضد التعذيب) التي أنشئت حديثاً بضرورة توفير كاميرا مُخصصة للتصوير، وامتلاك أفرادها أجهزة تليفون محمولة مزوده بكاميرات حتى يستطيعوا التصوير في أي مكان هم متواجدون فيه.
______
كتبه اسامة الدسوقي على موقع زمش بتاريخ سبتمبر 2007