
يمتلك الكاتب الكبير (محمود السعدني) القدرة دائما على السخرية حتى في أحلك الظروف، ويستطيع إضحاك القارئ على احداث من المفترض أنها مأساوية، ولكنه يرويها بأسلوب رشيق وشيق وقدرة على السخرية والاستهزاء بالمواقف الصعبة تدفع القارئ دفعا إلى الابتسام والبهجة.
ففي كتابه (الطريق إلى زمش) يروي السعدني قصة القبض عليه وقضاؤه حوالى السنتين متنقلا بين ثلاث سجون هي (سجن القلعة)، (سجن الفيوم)، (سجن الواحات)، على الترتيب، ويعتبرها كانت من أخصب فترات حياته على الرغم من تعرضه للتعذيب في سجن الواحات، فهو يستطيع أن يستخرج النكتة من قلب المأساة، وكان تنظيم (زمش) أو (زي ما أنت شايف) هو إحدى ثمار تلك الفترة التي قضاها في المعتقلات.
وأصل حكاية (زمش) أن المعتقلين في سجن الواحات قد جرى توزيعهم داخل السجن على أساس الانتماء الحزبي، فكان لكل تنظيم شيوعي غرف خاصة به، مثل تنظيم (حدتو) أي: الحركة الوطنية للتحرر الديمقراطي، وتنظيم (ط. ش) أي: طليعة الشيوعيين، وتنظيم (و. ش) أي: وحدة الشيوعيين، ولكن كان في المعتقل عشرات من الذين لا ينتمون لأي تنظيمات شيوعية، فكان اختراع تنظيم هو الحل لمواجهة هذه المشكلة، وكان الاسم الذي اهتدى إليه السعدني هو (زي ما أنت شايف) وأخذ الحروف الأولى من الكلمات الثلاث لتصبح (زمش) كعادة التنظيمات الشيوعية الأخرى.
ويروي الكاتب قصة المعاناة التي عاناها في السجون الثلاث، وسجن الواحات على وجه الخصوص، وهي على الرغم من قسوتها إلا أن أسلوب السعدني الفكاهي يغلب على تلك الأحداث فيكسبها طابعا فكاهيا محببا.
يوجه السعدني نقدا عنيفا للتنظيمات الشيوعية التي انفصلت عن الشعب المصري تماما وانقطعت عنه ولم تستطع في يوم من الأيام تكوين أي قاعدة جماهيرية لها، بسبب غرورهم وسذاجتهم وتنطعهم واعتقادهم الراسخ بأهميتهم التاريخية العظمى وأنهم قد جاءوا إلى الوجود لإنقاذ الشعب المصري، واعتبار عضو التنظيم هو المناضل الثوري الذي يملك في يده مفاتيح الحل لكل المشاكل، أما الآخرون فهم إما عملاء للاستعمار أو كلاب للسلطة أو “إمبرياليون عملاء للشواشي العليا للبورجوازية”، ولذلك لم ينفتح التنظيم الشيوعي في مصر في أي وقت من الأوقات على الجماهير المصرية.
أيضا يستخدم الشيوعيون كلمات كبيرة في وصف أحداث تافهة، مثل توزيع المواد الغذائية داخل السجن، حيث اعتبر الشيوعيون أن الإمبريالية تعمل بالتنسيق مع بعض المنظمات المشبوهة في مخطط شيطاني من أجل حرمانهم من التموين من شاي وسجائر وطعام!
كما كانوا يعتقدون أن هناك زحفا شعبيا وضغطا جماهيريا خارج السجن للمطالبة بالإفراج عنهم، ويخضعون كل شيء لقوالب جامدة ونظريات محفوظة ويفسرون كل شيء على أساسها.
كما كان الانتماء للتنظيم يتم أحيانا كثيرة على أساس كمية السجائر التي يصرفها كل تنظيم لأعضائه، فكان العضو الجديد ينضم إلى تنظيم شيوعي في المساء وينفصل عنه في الصباح، لينضم بعد الظهر إلى تنظيم آخر.
يستعرض السعدني بعض الشخصيات التي يعتبرها “كارثة” على الحركة الشيوعية بسبب جهلها وغبائها وغرورها، مثل فهمى حبيب الذي كان يعتقد أنه رئيس مصر القادم بعد خمس سنوات، وصحفي صغير اسمه “عبد الوهاب صبحي” الذي كان يعتقد أن الصحافة ستنمو على يديه ويعتبر هيكل والتابعي ومصطفى أمين تلاميذ له، وصبي منجد يعتبره الشيوعيون أهم كاتب قصة في مصر لمجرد أنه ينتمى للتنظيم، كما لم يستطع الشيوعيون أنفسهم القضاء على تفاوت الطبقات، حتى بينهم داخل السجن، فانقسموا إلى يساريين بهوات ويساريين أجراء، ويعمل الأجراء في خدمة البهوات بسبب امتلاكهم الأموال، وذلك لكي يضمنوا السجائر والطعام والشاي.
إلا أن السعدني يستعرض بعد ذلك أثناء الأحداث شيوعيين محترمين كثيرين من رفاق السجن، يرى أنهم لم يأخذوا حقهم، وأنهم قد دفعوا ثمن مبادئهم وما يؤمنون به كاملا، مثل مصطفي طيبة، وحسن فؤاد وبكر سيف النصر وعلي الشلقاني ومحمود المانسترلي، وعبد الرحمن الخميسي.
وفي فصل آخر بعنوان (حكايات الصول شاهين) يحكي محمود السعدني عن حارس اسمه “الصول شاهين” معتبرا إياه نموذجا للإنسان المصري، فقد كان وكيل مصلحة السجون (إسماعيل همت) يحب تعذيب المعتقلين، وعندما حضر إلى سجن الواحات كان لابد من إرضائه، فتعرض المعتقلون إلى وصلة تعذيب مستمرة طوال عدة أيام، وكان الصول شاهين يتفنن في تعذيبهم وضربهم إرضاء “للباشا”، وعندما كان يقوم بمهمته تلك في صباح أحد الأيام، علم أن (إسماعيل همت) قد غادر السجن، فقام بالرقص أمام المعتقلين ابتهاجا لرحيله، فقد كان مرغما على فعل ما لا يحب، ووصف تلك الأيام بأنها كانت (أيام غم).
يقول السعدني “ها هو ذا شاهين يسفر عن وجهه الحقيقي في لحظه درامية نادرة، فإذا به مصري أصيل، موقف شاهين هذا يثبت أننا لسنا هواة تعذيب، ولكنها الأوامر ورغبة المسؤولين، فإذا ما سافر المسؤول وغادر مسرح الأحداث، عاد الإنسان المصري إلى طبيعته وسقطت الحواجز والفروق بين السجانة والمسجونين).
وعندما كان السعدني يتعرض للضرب من شاويش اسمه (متّى)، صرخ فيه (أنت بتضرب ليه يا عم متّى؟) فاستبد بالشاويش جنون مفاجئ وراح يضرب بقسوة، ولكنه اعتذر له في اليوم التالي قائلا “أنت السبب.. تقول لي يا عم متى قدام البيه المأمور، إحنا أصحاب لكن لازم تلتزم النظام قدام البيه المأمور).
كان هذا حال جميع الحراس داخل المعتقل، وكانت حالتهم أسوأ من المعتقلين أنفسهم، وعبر عنها أحد الحراس بقوله (أنا عندي مشاكل مش تخلينى أكتب منشورات بس، دي تخليني أضرب بالنار).
اسم الكتاب: الطريق الى زمش
المؤلف: محمود السعدني
الناشر: دار أخبار اليوم
216 صفحة
________
كتبه اسامة الرشيدي على موقع زمش بتاريخ اكتوبر 2007